الآيات 1 - 8

﴿الْحَآقَّةُ (1) مَا الْحَآقَّةُ (2) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَآقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثُمُودُ وَعَادُ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيح صَرْصَر عَاتِيَة (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَال وَثَمَـنِيَةَ أَيَّام حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْل خَاوِيَة (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَة (8)﴾

التّفسير:

الطغاة والعذاب الأليم:

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة، يقول تعالى: (الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة)(231) والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقّق حتماً.

ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة، باعتباره قطعي الوقوع، كما هو بالنسبة لـ (الواقعة) في سورة (الواقعة)، وقد جاء في الآية (16) من هذه السورة الاسم نفسه، وهذا يؤكّد يقينية ذلك اليوم العظيم.

"ما الحاقّة": تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم، كما يقال: إنّ فلاناً إنسان، يا له من إنسان، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيّته دون تقييد حدّها.

والتعبير بـ (ما أدراك ما الحاقّة) للتأكيد مرّة اُخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتّى أنّ الباريء عزّوجلّ يخاطب رسوله الكريم (ص) بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم؟(232).

وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن اُمّه المسائل المتعلّقة بالدنيا، فإنّ أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة.

ويحتمل أنّ المقصود من (الحاقّة) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحلّ فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمرّدين على الحقّ.

كما فسّرت (القارعة) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى - أيضاً وبلحاظ أنّ هذا التّفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى هذا الرأي أيضاً.

وجاء في تفسير (علي بن إبراهيم) قوله: إنّ (الحاقّة هي الحذر من نزول العذاب) وهو نظير ما جاء في الآية التالية: (وحاقّ بآل فرعون سوء العذاب)(233)(234).

ثمّ تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم القيامة، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا، حيث يضيف تعالى: (كذّبت ثمود وعاد بالقارعة فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية).

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، فبعث الله النبي صالح (ع) إليهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله... إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقاً، وفي هذه الحالة من التمرّد الذي هم عليه، سلّط الله عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كلّ وجودهم في لحظات، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ القرآن الكريم يعبّر عن عقاب هؤلاء الأقوام المتمردين بـ (العذاب الشديد)، وقد كان العذاب الشديد بصور متعدّدة حيث عبّر عنه بـ (الطاغية) كما جاء في الآية مورد البحث واُخرى بالـ (رجفة) كما جاء في سورة الأعراف الآية (78) وثالثة كان بصورة (صاعقة) كما ورد في سورة فصّلت الآية (13)، ورابعة كان على شكل (صيحة) كما جاء في سورة هود الآية (67).

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد، لأنّ الصاعقة دائماً تكون مقرونة: بصوت عظيم، ورجفة على النقطة التي تقع فيها، وعذاب طاغ عظيم.

ثمّ تتطرّق الآية اللاحقة لتحدّثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة، وأجساد قوية، ومدن عامرة، وأراض خضراء خصبة، وحدائق نضرة... وكان نبيّهم (هود) (ع) يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله... إلاّ أنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحقّ، فانتقم الله منهم شرّ إنتقام، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذاباً شديداً مؤلماً، سنوضّح شرحه في الآيات التالية.

يقول تعالى: (وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية).

"صرصر" على وزن (دفتر) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت وضوضاء، أو المسمومة، وقد ذكر المفسّرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.

"عاتية" من مادّة (عتو) على وزن (علو) بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله.

ثمّ تبيّن الآية التالية وصفاً آخر لهذه الرياح المدمّرة، حيث يقول تعالى: (سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً).

"حسوماً" من مادّة (حسم) على وزن (رسم) بمعنى إزالة آثار شيء ما، وقيل للسيف (حسام) على وزن (غلام)، ويقال: (حسم) أحياناً لوضع الشيء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم، والتي كانت تتميّز بالاُبّهة والجمال، واستأصلتهم من الجذور(235).

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى: (فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية).

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي إقتلعت من الجذور، بالإضافة إلى خواء نفوسهم، حيث أنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اُخرى.

"خاوية" من مادّة (خواء) على وزن (حواء) في الأصل بمعنى كون الشيء خالياً، ويطلق هذا التعبير أيضاً على البطون الجائعة، والنجوم الخالية من المطر (كما في إعتقاد عرب الجاهلية)، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية: (فهل ترى لهم من باقية)(236).

نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد، بل حتّى مدنهم العامرة، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبداً.

لقد بحثنا قصّة قوم عاد بصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل، تفسير الآيات (58 - 60) من سورة هود.