الآيات 46 - 50
﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَم مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلاَ أَن تَدَرَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَـهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّـلِحِينَ (50)﴾
التّفسير:
لا تستعجل بعذابهم:
استمراراً للإستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين، يضيف الباريء عزّوجلّ سؤالين آخرين، حيث يقول في البداية: (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون).
أي إذا كانت حجّتهم أنّ الإستجابة لدعوتك تستوجب أجراً مادياً كبيراً، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به، فإنّه كذب، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر، كما لم يطلب أي من رسل الله أجراً.
"مغرم" من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اُخرى ممّا يتذرّع به المعاندون.
وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّاً) في سورة الطور (آية 40 - 41).
ثمّ يضيف واستمراراً للحوار بقوله تعالى: (أم عندهم الغيب فهم يكتبون).
حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم إرتباطاً بالله سبحانه عن طريق الكهنة، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين، أو على الأقل يتساوون معهم.
ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الإدّعاء أيضاً، إضافةً إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الإستفهام الإنكاري)، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ)، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبداً أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.
ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول الله (ص)وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئاً من آلام رسوله الكريم، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربّك).
أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر، ويكسر شوكة أعدائك، فلا تستعجل بعذابهم أبداً، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم، وما المهلة المعطاة لهم إلاّ نوع من عذاب الإستدراج.
وبناءً على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول إنتصار المسلمين.
وقيل أنّ المقصود منها هو: أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى.
كما يوجد إحتمال آخر أيضاً وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(220).
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
ثمّ يضيف تعالى: (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم):
والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)(221).
وبذلك فقد إعترف النبي يونس (ع) بترك الأولى، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى.
كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه.
إلاّ أنّ المفسّرين إختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ "نادى" في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عندما كان (ع) في بطن الحوت.
"مكظوم" من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على إنفعالاتهم ويكظمون غيظهم... بأنّهم: كاظمون، والمفرد: كاظم، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضاً بمعنى (الحبس).
وبناءً على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه: المملوء غضباً وحزناً، أو المحبوس في بطن الحوت، والمعنى الأوّل أنسب، كما ذكرنا.
ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة: (لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم)(222).
من المعلوم أنّ يونس (ع) خرج من بطن الحوت، واُلقي في صحراء يابسة، عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قَبِل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته، ولم يكن أبداً مستحقّاً (ع) للذمّ.
ونقرأ في قوله تعالى: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين)(223) كي يستريح في ظلالها.
كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحاله (ع) حسب الظاهر.
وهنا يطرح سؤالان:
الأوّل: هو ما جاء في الآيتين 143، 144 من سورة الصافات في قوله تعالى: (فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث.
وللجواب على هذا السؤال يمكن القول: كانت بإنتظار يونس (ع) عقوبتان: إحداهما شديدة، والاُخرى أخفّ وطأة.
الاُولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، والأخفّ: هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه، وقد كان جزاؤه (ع) الجزاء الثاني، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة الله عزّوجلّ ورحمته الخاصّة.
والسؤال الآخر: يتعلّق بما جاء في قوله تعالى: (فالتقمه الحوت وهو مليم)(224)وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّه (ع) لم يكن ملوماً ولا مذموماً.
ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالإلتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّاً، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقاً بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى، ونجاته من بطن الحوت.
لذا يقول الباريء عزّوجلّ في الآية اللاحقة: (فاجتباه ربّه فجعله من الصالحين).
وبذلك فقد حمّله الله مسؤولية هداية قومه مرّة اُخرى، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعاً، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة.
وقد شرحنا قصّة يونس (ع) وقومه، وكذلك بعض المسائل الاُخرى حول تركه لـ (الأولى) وإستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (139 - 148) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (87، 88) من سورة الأنبياء.