الآيات 42 - 45
﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ(42) خَـشِعَةً أَبْصَـرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَـلِمُونَ (43) فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ (45)﴾
التّفسير:
العجز عن السجود:
تعقيباً للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجواباً موضوعياً، تكشف لنا هذه الآيات جانباً من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها، والمكثرة للإدّعاءات، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.
يقول تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون)(214).
جملة (يكشف عن ساق) كما قال جمع من المفسّرين، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمراً صعباً أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.
ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عندما سئل عن تفسير هذه الآية قال: كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب، ألم تسمعوا قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق.
إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.
وقيل: إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء، كساق الشجرة، وبناءً على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.
وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للباريء عزّوجلّ، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.
وهنا يثار سؤال: إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال، فلِمَ السجود؟
يمكن إستنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضا (ع) في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود) قال: "حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّداً وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود"(215).
وبتعبير آخر: في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون، إلاّ أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.
وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه: (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة)(216).
هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عندما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيراً عن هذه الحالة المهينة.
ثمّ يضيف تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون).
إلاّ أنّهم لن يسجدوا أبداً، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟
إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة، فتارةً بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسول (ص) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)... ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم.
ثمّ يوجّه الباريء عزّوجلّ الخطاب لنبيّه الكريم ويقول: (فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث).
وهذه اللهجة تمثّل تهديداً شديداً من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين، حيث يخاطب الرّسول (ص) بقوله: لا تتدخّل، واتركني مع هؤلاء، لاُعاملهم بما يستحقّونه.
وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء، - بالضمن - باعث على إطمئنان الرّسول (ص) والمؤمنين أيضاً، ومشعراً لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام الرّسول والرسالة، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.
ثمّ يضيف سبحانه: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متين).
نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمة فيدع الإستغفار، فهو الإستدراج"(217).
والذي يستفاد من هذا الحديث - والأحاديث الاُخرى في هذا المجال - أنّ الله تعالى يمنح - أحياناً - عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم.
فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف، وتستولي عليهم الغفلة... إلاّ أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة... وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألماً.
إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم، ويستيقظوا من غفلتهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وهذا من ألطاف الباريء عزّوجلّ بهم.
وبعبارة اُخرى: إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية:
إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه، أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.
أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو: (عذاب الإستدراج) والذي اُشير له في الآيات القرآنية بالتعبير أعلاه وبتعابير اُخرى.
لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الإستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الاُمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار، ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً، كي يكونوا قريبين من طاعة الله، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.
جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق(ع) قال: إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك إستدراجاً؟ فقال: "أمّا مع الحمد فلا"(218).
والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبداً بجزاء الظالمين، والإستعجال يكون عادةً من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه، إلاّ أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك، والزمن كلّه تحت تصرّفه.
وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبداً، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(219).