الآيات 34 - 41
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالُْمجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَـبٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَـنٌ عَلَيْنَا بَـلِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَـدِقِينَ(41)﴾
التّفسير:
1 - استجواب كامل:
إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، وإستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الاُسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية... فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم... ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين، ويجعل كلا منهما في ميزان، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية مقارنة، للوصول إلى الحقيقة.
وتماشياً مع هذا المنهج وبعد إستعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة، يستعرض الباريء عزّوجلّ حالة المتّقين فيقول: (إنّ للمتّقين عند ربّهم جنّات النعيم).
"جنّات" من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.
ولأنّ قسماً من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الإدّعاء بشدّة في الآية اللاحقة.
بل يحاكمهم فيقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون).
هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم، المطيع والمجرم، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عندما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.
وتستعرض الآية (50) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم، حيث يقول تعالى: (ولئن أذقناه رحمةً منّا من بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ هذا ليّ، وما أظنّ الساعة قائمة، ولئن رجعت إلى ربّي إنّ لي عنده للحسنى).
نعم، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها... تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.
ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون: (أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيّرون)(212)أي ما اخترتم من الرأي... إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين وعلى مستواهم...، حديث هراء لا يدعمه العقل، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع إعتبار.
ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل، فهل أخذتم عهداً من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد: (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إنّ لكم لما تحكمون).
وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الإدّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهداً من الله سبحانه في الإستجابة لميوله وأهوائه، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام، وبدون موازين أو ضوابط، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الإستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(213).
ويضيف سبحانه - استمراراً لهذه التساؤلات - كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات، فيقول: (سلهم أيّهم بذلك زعيم) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.
وفي آخر مرحلة من هذا الإستجواب العجيب يقول تعالى: (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين).
فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة، والتي لا قيمة لها ولا شعور، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).
ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول: إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات إدّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة، بل أفضليتهم أحياناً كما يذهب بعضهم لذلك، لابدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة التالية: إمّا دليل من العقل، أو كتاب من الكتب السماوية، أو عهد من الله تعالى، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين.
وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي، لذا فإنّ هذا الإدّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.