الآيات 8 - 16

﴿فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّف مَّهِين (10) هَمَّاز مَّشَّاء بِنَمِيم (11) مَّنَّاع لِّلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيم (12) عُتُلِّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم (13) أَن كَانَ ذَا مَال وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا قَالَ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)﴾

التّفسير:

اجتنب أصحاب هذه الصفات:

بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول الله (ص)، تلتها الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتّضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين، وذلك من خلال المقارنة بينهما.

يقول تعالى في البداية: (فلا تطع المكذّبين).

إنّهم اُناس ضالّون، ويدفعون الآخرين للتكبّر على الله ورسوله، وينهونهم عن قبول مبدأ الهداية، وقد استهانوا، واستخفّوا بقيم الحقّ، وإنّ الطاعة والإستجابة لهؤلاء سوف لن تكون نتيجتها إلاّ الضلال والخسران.

ثمّ يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرّسول (ص) بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول: (ودّوا لو تدهن فيدهنون).

إنّ من أمانيهم ورغبتهم أن تلين وتنعطف باتّجاههم، وتغضّ الطرف عن تكليفك الرسالي من أجلهم.

ونقل المفسّرون أنّ هذه الآيات نزلت حينما دعا رؤساء مكّة وساداتها رسول الله (ص) للسير على نهج أجدادهم في الشرك بالله وعبادة الأوثان، وقد نهى الله تعالى رسوله الكريم عن الإستجابة لهم وإطاعتهم(197).

ونقل البعض الآخر أنّ (الوليد بن المغيرة) وكان أحد زعماء الشرك قد عرض على رسول الله (ص) أموالا طائلة، وحلف أنّه سيعطيها لـ (محمّد) إذا تخلّى عن مبدئه ودينه(198).

والذي يستفاد من لحن الآيات - بصورة واضحة - وممّا جاء في التواريخ، أنّ المشركين الذين أعمى الله بصيرتهم، عندما شاهدوا التقدّم السريع للإسلام وإنتشاره، حاولوا إعطاء رسول الله (ص) بعض المكاسب في مقابل تقديم تنازلات مماثلة، في محاولة لترتيب نوع من الصلح معه (ص).

وهذا هو منهج أهل الباطل - دائماً - في الظروف والأحوال التي يشعرون فيها أنّهم سيخسرون كلّ شيء ويفقدون مواقفهم، لذا فإنّهم اقترحوا عليه (ص) إعطاءه أموالا طائلة، كما اقترحوا تزويجه بأجمل بناتهم، كما عرضوا عليه جاهاً ومقاماً وملكاً بارزاً، وما إلى ذلك من اُمور كانوا متعلّقين بها ومتفاعلين معها ومتهالكين عليها، ويقيسون الرّسول بقياسها".

إلاّ أنّ القرآن الكريم حذّر الرّسول (ص) مراراً من مغبّة إبداء أي تعاطف مع عروضهم وإقتراحاتهم الماكرة وأكّد على عدم مداهنة أهل الباطل أبداً.

كما جاء في قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك).

"يدهنون" من مادّة (مداهنة) مأخوذة في الأصل (الدهن) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق.

ثمّ ينهى سبحانه مرّة اُخرى عن اتّباعهم وطاعتهم، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم، والتي كلّ واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سبباً للإبتعاد عنه والصدود عن الإستجابة لهم.

يقول تعالى: (ولا تطع كلّ حلاّف مهين).

تقال كلمة "حلاّف" على الشخص الكثير الحلف، والذي يحلف على كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا النموذج في الغالب لا يتسّم بالصدق، ولذا يحاول أن يطمئن الآخرين بصدقه من خلال الحلف والقسم.

"مهين" من (المهانة) بمعنى الحقارة والضّعة، وفسّرها البعض بأنّها تعني الأشرار أو الجهلة أو الكاذبين.

ثمّ يضيف عزّوجلّ: (همّاز مشّاء بنميم).

"همّاز" من مادّة (همز)، (على وزن رمز) ويعني: الغيبة وإستقصاء عيوب الآخرين.

"مشّاء بنميم" تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم (وممّا يجدر الإلتفات إليه أنّ هذين الوصفين وردا بصيغة المبالغة، والتي تحكي غاية الإصرار في العمل والإستمرار بهذه الممارسات القبيحة).

ثمّ يسرد تعالى أوصافاً اُخرى لهم، حيث يقول في خامس وسادس وسابع صفة ذميمة لأخلاقهم: (منّاع للخير معتد أثيم).

ومن صفاتهم أيضاً أنّهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير، ولا يسعون في سبيله، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه... بل إنّهم يقفون سدّاً أمام أي ممارسة تدعو إليه، ويمنعون كلّ جهد في الخير للآخرين، وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم متجاوزون لكلّ السنن والحقوق التي منحها الله عزّوجلّ لكلّ إنسان ممّا تلطف به من خيرات وبركات عليه.

وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب، محتطبون للآثام، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءاً من شخصياتهم وطباعهم التي هي منّاعة للخير، معتدية وآثمة.

وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم).

"عتل" كما يقول الراغب في المفردات: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كلّ شيء، ويمنع الآخرين منه.

وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السيء الطبع والخُلُق، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد، أو الإنسان سيء الخُلُق عديم الحياء.

"زنيم" تطلق على الشخص المجهول النسب، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم، وهي في الأصل من (زنمة)، (على وزن عظمة) وتقال للجزء المتدلّي من اُذن الغنم، فكأنّها ليست من الاُذن مع أنّها متصلة بها.

والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحاً وضعة من الصفات السابقة كما استفاد ذلك بعض المفسّرين.

وخلاصة البحث أنّ الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذّبين، وبيّن صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه، وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا الرّسول الكريم (ص) كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وإنحطاطاً وخسّة، فهم يتتبعون عيوب الآخرين، نمّامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب، وفي الحقيقة أنّنا لا نتوقّع أن يقف بوجه النور الرسالي إلاّ أمثال هؤلاء الأشرار.

ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الإستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم: بقوله: (أن كان ذا مال وبنين).

وممّا لا شكّ فيه أنّ الرّسول (ص) لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبداً، وهذه الآيات ما هي إلاّ تأكيد على هذا المعنى، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع، ولن تنفع جميع الإغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية.

وبناءً على هذا فإنّ الجملة أعلاه تأتي تكملة للآية الكريمة: (ولا تطع كلّ حلاّف مهين).

إلاّ أنّ البعض اعتبر ذلك بياناً وعلّة لظهور هذه الصفات السلبية، حيث الغرور الناشىء من الثروة وكثرة الأولاد جرّهم ودفعهم إلى مثل هذه الرذائل الأخلاقية.

ولهذا يمكن ملاحظة هذه الصفات في الكثير من الأغنياء والمقتدرين غير المؤمنين.

إلاّ أنّ لحن الآيات يتناسب مع التّفسير الأوّل أكثر، ولهذا اختاره أغلب المفسّرين.

وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية، حيث يقول تعالى: (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين).

وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عزّوجلّ، فيضلّ ويغوى ويدعو الآخرين للغي والضلال، ولهذا يجب عدم الإستجابة لهؤلاء وعدم السماع لهم في مثل هذه الاُمور، والإعراض عنهم وعدم طاعتهم، وهذا تأكيد للنهي عن طاعتهم الذي تعرّضت إليه الآيات السابقة.

وتوضّح لنا آخر آية - من هذه الآيات - مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه: (سنسمّه على الخرطوم).

وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء، إذ جاء التعبير أوّلا بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.

وثانياً: أنّ الأنف في لغة العرب غالباً ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة، كما يقال للفارس حين إذلاله: مرّغوا أنفه بالتراب، كناية عن زوال عزّته.

وثالثاً: أنّ وضع العلاّمة تكون عادة للحيوانات فقط، بل حتّى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها - خصوصاً اُنوفها - أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل.

ومع كلّ ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر واف وواضح أنّ الله تعالى سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجباً بذواتهم، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل، وتجاوزهم على الرّسول والرسالة... سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدّثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.

إنّ التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيراً من صور الإذلال والإمتهان لأمثال هذه المجموعة المخالفة للحقّ المعاندة في ضلالها، المكابرة في تمسّكها بالباطل، بالرغم من تقدّم الرسالة الإسلامية وقوّتها وإنتصاراتها، كما أنّ فضيحتهم في الآخرة ستكون أدهى وأمرّ.

قال بعض المفسّرين: إنّ أكثر آيات هذه السورة كان يقصد بها (الوليد بن المغيرة) أحد رموز الشرك الذي واجه الإسلام وتعرّض لرسوله الأمين محمّد(ص)، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ هذا القصد، لا يمنع من تصميم وتوسعة مفهوم الآيات الكريمة وشموليته(199).

ملاحظات

1 - الرذائل الأخلاقية

بالرغم من أنّ الآيات أعلاه تحدّثت عن الصفات الأخلاقية الرذيلة للمخالفين والمعاندين لرسول الإسلام محمّد (ص)، إلاّ أنّها في الوقت نفسه تعكس لنا نماذج ومفردات للصفات السلبية التي تبعد الإنسان عن الله عزّوجلّ، وتسقطه في وحل الشقاء والبؤس، ممّا يستدعي من المؤمنين الملتزمين أن يكونوا على حذر منها ويراقبوا أنفسهم بدقّة من التلوّث بها، ولذا فقد أكّدت الروايات الإسلامية كثيراً على هذا المعنى.

ومن جملة ذلك ما يلي:

1 - نقرأ في حديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: "ألا اُنبئّكم بشراركم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباعثون للبرءاء المعايب"(200).

لقد كان رسول الله (ص) يؤكّد كثيراً على البناء الأخلاقي للشخصية الإسلامية، حتّى أنّه قال: "لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"(201).

2 - وأخيراً نقرأ في حديث عنه (ص) أنّه قال: "لا يدخل الجنّة جواظ، ولا جعظري، ولا عتل زنيم".

يقول الراوي: قلت: فما الجواظ؟ قال (ص): كلّ جمّاع منّاع، قلت: فما الجعظري؟ قال (ص): الفضّ الغيظ؟ قلت: فما العتل الزنيم؟ قال (ص): رحب الجوف سيء الخُلُق أكول شروب غشوم ظلوم"(202).

2 - المداهنة والصلح

إنّ من جملة الخصائص التي يتميّز بها تجّار السياسة، والأشخاص والمجاميع غير الرسالية، أنّهم يتلوّنون ويتصرّفون بالشكل الذي يتماشى مع مصالحهم، فلا ضوابط ولا ثوابت تحكمهم، بل هم على إستعداد دائم للتنازل عن كثير من الشعارات المدعاة من جانبهم، مقابل تحقيق بعض المكاسب أو الحصول على بعض الإمتيازات.

أمّا متبنّياتهم المدعاة فلا تشكّل شيئاً مقدّساً بالنسبة إليهم، ويحوّرونها بما تقتضيه مصالحهم، وهذا المفهوم هو ما تشير إليه الآية الكريمة حيث يقول تعالى: (ودّوا لو تدهن فيدهنون).

أمّا أهل المبادىء والإلتزام فإنّهم لا يضحّون بأهدافهم المقدّسة مطلقاً ولا يساومون عليها أو يداهنون أبداً، ولن يتخلّوا عن متبنّياتهم ويقوموا بعمل أو صلح على خلاف ما تمليه عليهم مبادئهم العقائدية، خلافاً لما عليه تجّار السياسة... إنّ هذا المقياس من أفضل الدلائل لتشخيص السياسيين المنحرفين عن غيرهم من المبدئيين، والأشخاص الذين يسايرون هؤلاء المنحرفين لا شكّ أنّهم بعيدون عن طريق الله وأوليائه.