الآيات 1 - 7

﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون (2)وَإِنَّ لَكَ لاََجْراً غَيْرَ مَمْنُون (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم (4)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)﴾

التّفسير:

عجباً لأخلاقك السامية:

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى: (ن).

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة، خصوصاً في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك.

كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلاّ أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

وبناءً على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقاً.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى: (والقلم وما يسطرون).

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب - أو شيء يشبه ذلك - وبقليل من مادّة سوداء، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلاّ أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية... كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الاُمم وهداية الإنسان... وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن إخترع الإنسان الخطّ وإستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات، وبتعبير آخر، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليداً لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كلّ مكّة - التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والإقتصادي لأرض الحجاز - لم يتجاوز الـ (20) شخصاً.

ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاُولى التي نزلت على قلب رسول الله (ص) في (جبل النور) أو (غار حراء) قد اُشير فيها أيضاً إلى المنزلة العليا للقلم، حيث يقول تعالى: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم)(175).

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ، وهذا دليل أيضاً على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها: (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي)، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر)، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة (ما يسطرون) مفهوماً واسعاً أيضاً، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(176).

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى: (ما أنت بنعمة ربّك بمجنون).

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار، وإلاّ فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة... إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة، إنّ إبتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك: (وإنّ لك لأجراً غير ممنون) أي غير منقطع، ولِمَ لا يكون لك مثل هذا الأجر، في الوقت الذي وقفت صامداً أمام تلك التّهم والإفتراءات اللئيمة، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

"ممنون" من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبداً، وهو متواصل إلى الأبد، يقول البعض: إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من "المنّة"، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضاً: إنّ المقصود من (غير ممنون) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفاً آخر لرسول الله (ص) وذلك بقوله تعالى: (وإنّك لعلى خُلُق عظيم).

تلك الأخلاق التي لا نظير لها، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف، ولطف منقطع النظير، وصبر وإستقامة وتحمّل لا مثيل لها، وتجسيد لمبادىء الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والإلتزام به.

عندما دعوت - يارسول الله - الناس لعبادة الله، فقد كنت أعبد الناس جميعاً، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع، تقابل الأذى بالنصح، والإساءة بالصفح، والتضرّع إلى الله بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رمياً بالحجارة، واستهزاءاً بالرسالة، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزاً للحبّ ومنبعاً للعطف ومنهلا للرحمة، فما أعظم أخلاقك؟

"خُلُق" من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان، وهي ملازمة له، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخُلُق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ، وكثرة البذل والعطاء، وتدبير الاُمور، والرفق والمداراة، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية، والعفو عن المتجاوزين، والجهاد في سبيل الله، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص...، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول الله (ص) إلاّ أنّ الخُلُق العظيم له لم ينحصر بهذه الاُمور فحسب، بل أشمل منها جميعاً.

وفسّر الخُلُق العظيم أيضاً بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخُلُق العظيم) في شخصية الرّسول (ص) هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله: (فستبصر ويبصرون).

(بأيّكم المفتون) أي من منكم هو المجنون(177).

"مفتون": اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الإبتلاء، وورد هنا بقصد الإبتلاء بالجنون.

نعم، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك، إلاّ أنّ للناس عقلا وإدراكاً، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّاً، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها الباريء عزّوجلّ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لإنتشار الإسلام، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين، وأنّ هؤلاء الأقزام الخفافيش هم المجانين، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة، ويخسر هنالك المبطلون، حيث تتبيّن الاُمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اُخرى: (إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

وبلحاظ معرفة الباريء عزّوجلّ بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو إنحرف عنه، فإنّه يطمئن رسوله الكريم (ص) بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشاً حينما رأت رسول الله (ص) يقدم الإمام علي (ع) على الآخرين ويجلّه ويعظّمه، غمزه هؤلاء وقدحوا به (ص) وقالوا: (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآناً وذلك قوله: (ن والقلم) وأقسم بذلك، وإنّك يامحمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى: (إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الإتّهامات، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى، وهي إشارة إلى الإمام علي (ع)(178).

ملاحظات

1 - دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية - كما أشرنا سابقاً - هو ظهور الخطّ وما ثبّته القلم على صحائف الأوراق والأحجار، إذ أنّ هذا الحدث أدّى إلى فصل (عصر التاريخ) عن (عصر ما قبل التاريخ).

إنّ ما يثبته القلم على صفحات الورق هو الذي يحدّد طبيعة الإنتصار أو الإنتكاسة لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية، وبالتالي فإنّ ما يسطّره القلم يحدّد مصير البشر في مرحلة ما أو مكان ما... فـ (القلم) هو الحافظ للعلوم، المدوّن للأفكار، الحارس لها، وحلقة الإتّصال الفكري بين العلماء، والقناة الرابطة بين الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل.

بل حتّى موضوع إرتباط الأرض بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضاً.

فالقلم يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية، وهو مرآة تعكس صور المفكّرين على طول التاريخ في كلّ الدنيا وتجمعها في مكتبة كبيرة.

والقلم: حافظ للأسرار، مؤتمن على ما يستودع، وخازن للعلم، وجامع للتجارب عبر القرون والأعصار المختلفة.

وإذا كان القرآن قد أقسم به فلهذا السبب، لأنّ القسم غالباً لا يكون إلاّ بأمر عظيم وذي قيمة وشأن.

ومن الطبيعي عندئذ أن يكون (القلم) وسيلة لـ (ما يسطرون) من الكتابة، ونلاحظ القسم بكليهما لقد أقسم القرآن الكريم بـ (الوسيلة) وكذلك (بحصاد) تلك الوسيلة (وما يسطرون).

وجاء في بعض الروايات "إنّ أوّل ما خلق الله القلم".

نقل هذا الحديث محدّثو الشيعة عن الإمام الصادق (ع)(179).

وجاء هذا المعنى أيضاً في كتب أهل السنّة في خبر معروف(180).

وجاء في رواية اُخرى: (أوّل ما خلق الله تعالى جوهرة)(181).

وورد في بعض الأخبار أيضاً: (إنّ أوّل ما خلق الله العقل)(182).

ويمكن ملاحظة طبيعة الإرتباط الخاصّ بين كلّ من (الجوهرة) و (القلم) و (العقل) الذي يوضّح مفهوم كونهم أوّل ما خلق الله سبحانه من الوجود.

جاء في نهاية الحديث الذي نقلناه عن الإمام الصادق (ع) إنّ الله تعالى قال للقلم بعد خلقه إيّاه: أكتب، وأنّه كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.

وبالرغم من أنّ المقصود من القلم في هذه الرواية هو قلم التقدير والقضاء، إلاّ أنّ جميع ما هو موجود من أفكار وعلوم وتراث، وما توصّل إليه العقل البشري على طول التأريخ، وما هو مثبت من مبادىء ورسالات وتعاليم وأحكام... يؤكّد على دور القلم في الحياة الإنسانية ومصير البشرية.

إنّ قادة الإسلام العظام لم يكتفوا بحفظ الأحاديث والروايات والعلوم والمعارف الإلهية في ذاكرتهم بل كانوا يؤكّدون على كتابتها، لتبقى محفوظة لأجيال المستقبل(183).

وقال بعض العلماء: (البيان بيانان: بيان اللسان، وبيان البنان، وبيان اللسان تدرسه الأعوام، وبيان الأقلام باق على مرّ الأيّام)(184).

وقالوا أيضاً: (إنّ قوام اُمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم)(185).

وقد نظّم بعض شعراء العرب هذا المعنى بقولهم: كذا قضى الله للأقلام مذ بريت أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم

(إنّ هذا التعبير إشارة بديعة إلى بري القلم بواسطة السكين، وجعل الشفرة الحادّة بخدمة القلم من البداية)(186).

ويقول شاعر آخر، في هذا الصدد ومن وحي الآيات مورد البحث: إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم وعدّوه ممّا يجلب المجد والكرم كفى قلم الكتاب فخراً ورفعة مدى الدهر إنّ الله أقسم بالقلم(187) وإنّه لحقّ، وذلك أنّه حتّى الإنتصارات العسكرية إذا لم تستند وترتكز على ثقافة قويّة فإنّها لن تستقيم طويلا.

لقد سجلّ المغول أكبر الإنتصارات العسكرية في البلدان الإسلامية، ولأنّهم كانوا شعباً سطحياً في مجال المعرفة والثقافة فلم يؤثّروا شيئاً، وأخيراً اندمجوا في حضارة الإسلام وثقافة المسلمين وغيّروا مسارهم.

ومجال البحث في هذا الباب واسع جدّاً، إلاّ أنّنا - إلتزاماً بمنهج التّفسير وعدم الخروج عنه - ننهي كلامنا هنا بحديث معبّر عن رسول الله (ص) في هذا الموضوع حيث يقول: "ثلاثة تخرق الحجب، وتنتهي إلى ما بين يدي الله: صرير أقلام العلماء، ووطىء أقدام المجاهدين، وصوت مغازل المحصنات"(188).

ومن الطبيعي أنّ كلّ ما قيل في هذا الشأن، يتعلّق بالأقلام التي تلتزم جانب الحقّ والعدل، وتهدي إلى صراط مستقيم، أمّا الأقلام المأجوره والمسمومة والمضلّة، فإنّها تعتبر أعظم بلاء وأكبر خطر على المجتمعات الإنسانية.

2 - نموذج من أخلاق الرّسول

بالرغم من أنّ الإنتصارات التي تمّت على يد الرّسول محمّد (ص) كانت برعاية الله سبحانه وإمداده، إلاّ أنّ ذلك كان اقتراناً بعوامل عديدة أيضاً، ولعلّ أحد أهمّ هذه العوامل هو: سمو الأخلاق عند رسول الله (ص) وجاذبيته الشخصية، إنّ أخلاقيته (ص) كانت من العلو والصفات الإنسانية السامية لدرجة أنّ ألدّ أعدائه كان يقع تحت تأثيرها كما أنّ مكارم الأخلاق التي أودعت فيه كانت تجذب وتشدّ المحبّين والمريدين إليه بصورة عجيبة.

وإذا ما ذهبنا إلى القول بأنّ السمو الأخلاقي لرسول الله (ص) كان معجزة أخلاقية، فإنّنا لا نبالغ في ذلك، كما سنوضّح لذلك نموذجاً من هذا الإعجاز الأخلاقي... ففي فتح مكّة وعندما إستسلم المشركون أمام الإرادة الإسلامية، ورغم كلّ حربهم للإسلام والمسلمين وشخص الرّسول الكريم بالذات، وبعد تماديهم اللئيم وكلّ ممارساتهم الإجرامية ضدّ الدعوة الإلهية... بعد كلّ هذا الذي فعلوه، فإنّ رسول الإنسانية أصدر أمراً بالعفو العامّ عنهم جميعاً، وغضّ الطرف عن جميع الجرائم التي صدرت منهم، وكان هذا مفاجأة للمقرّبين والبعيدين، الأصدقاء والأعداء، وكان سبباً في دخولهم في دين الله أفواجاً، بمصداق قوله تعالى: (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً).

لقد وردت في كتب التّفسير والتاريخ قصص كثيرة حول حسن خُلُق الرّسول الكريم (ص) في عفوه وتجاوزه وعطفه ورأفته، وتضحيته وإيثاره وتقواه ... بحيث أنّ ذكرها جميعاً يخرجنا عن البحث التّفسيري... إلاّ أنّنا سنكتفي بما يلي:

وجاء في حديث عن الحسين بن علي (ع) أنّه قال: سألت أبي أمير المؤمنين عن رسول الله كيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البِشر، سهل الخُلُق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، فلا يؤيّس منه ولا يخيب فيه مؤمّليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث كان لا يذمّ أحداً ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته ولا عورته ولا يتكلّم إلاّ في ما رجا ثوابه، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كإنّما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلّموا، ولا يتنازعون عنده الحديث..."(189).

نعم لو لم تكن هذه الأخلاق الكريمة وهذه الملكات الفاضلة، لما أمكن تطويع تلك الطباع الخشنة والقلوب القاسية، ولما أمكن تليين اُولئك القوم الذين كان يلفّهم الجهل والتخلّف والعناد، ويحدث فيهم إنعطافاً هائلا لقبول الإسلام... ولتفرّق الجميع من حوله بمصداق قوله تعالى: (لانفضّوا من حولك).

وكم كان رائعاً لو أحيينا والتزمنا بهذه الأخلاق الإسلامية القدوة، وكان كلّ منّا يحمل قبساً من إشعاع خلق وأخلاق رسولنا الكريم وخاصّة في عصرنا هذا حيث ضاعت فيه القيم، وتنكبّ الناس عن الخُلُق القويم.

والروايات في هذا الصدد كثيرة، سواء ما يتعلّق منها حول شخص الرّسول الكريم أو ما يتعلّق بواجب المسلمين في هذا المجال، ونستعرض الآن بعضاً من الروايات في هذا الموضوع.

1 - جاء في حديث أنّ رسول الله (ص) قال: "إنّما بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق"(190).

ولذا فإنّ أحد الأهداف الأساسية لبعثة الرّسول السعي لتكامل الاخلاق الفاضلة وتركيز الخُلُق السامي.

2 - وجاء في حديث آخر عنه (ص): "إنّ المؤمن ليدرك بحسن خُلُقه درجة قائم الليل وصائم النهار"(191).

3 - وورد عنه أيضاً (ص): "ما من شيء أثقل في الميزان من خُلُق حسن"(192).

4 - ونقل عنه (ص) أنّه قال: "أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلّفون. وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات"(193).

5 - ونقرأ في حديث عن رسول الله (ص): "أكثر ما يدخل الناس الجنّة تقوى الله وحسن الخُلُق"(194).

6 - وجاء في حديث عن الإمام الباقر (ع): (إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً"(195).

7 - وورد حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنّ الرّسول (ص) قال: "عليكم بحسن الخُلُق، فإنّ حسن الخُلُق في الجنّة لا محالة، وإيّاكم وسوء الخُلُق، فإنّ سوء الخُلُق في النار لا محالة"(196).

إنّ ما يستفاد من مجموع الأخبار - أعلاه - بشكل واضح وجليّ، أنّ حسن الخُلُق مفتاح الجنّة، ووسيلة لتحقيق مرضاة الله عزّوجلّ، ومؤشّر على عمق الإيمان، ومرآة للتقوى والعبادة ...والحديث في هذا المجال كثير جدّاً.