الآيات 8 - 11

﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَـهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَـهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يَـأُوْلِى الاَْلْبَـبِ الَّذِينَ ءَامَنُوا قَدْ أَنَزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)رَّسُولا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِ اللهِ مُبَيِّنَت لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ مِنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَـلِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (11)﴾

التّفسير:

العاقبة المؤلمة للعاصين:

في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الاُمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كلّ من (الطاعة والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضيّة طابعاً حسيّاً.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج، فبعد ذكر وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق، يحذّر العاصين والمتمرّدين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربّها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذّبناها عذاباً نكراً)(106).

والمقصود بـ "القرية" هو محل إجتماع الناس، وهو أعمّ من المدينة والقرية، والمراد هو أهلها.

"عتت" من مادّة "عتو" على وزن "غلو" بمعنى التمرّد على الطاعة.

و "نكر" على وزن "شكر" ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

"حساباً شديداً" أي الحساب الدقيق المقرون بالشدّة والصرامة، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق.

وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا، التي هلكت بعضها بالطوفان، وبعضها بالزلازل، وآخرون بالصواعق والعواصف، وأمثالهم حلّ بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة: (فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً).

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله، والخروج من هذه الدنيا - ليس فقط بعدم شراء المتاع - وإنّما بالإنتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ويرى البعض أنّ "حساباً شديداً" و "عذاباً نكراً" يشيران إلى "يوم القيامة" واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل، ولكن لا داعي لهذا التكلّف، خاصّة أنّ السورة تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة، فذلك يدلّ على أنّ المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا.

ثمّ يشير تعالى إلى عقابهم الاُخروي بقوله: (أعدّ الله لهم عذاباً شديداً) عذاباً مؤلماً، مخيفاً، مذلا، فاضحاً، دائماً أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنّم.

والآن (فاتّقوا الله يا اُولي الألباب الذين آمنوا).

إنّ الفكر والتفكّر من جهة، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اُخرى، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمرّدة التي عصت أمر ربّها، والإعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة.

وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله: (قد أنزل الله إليكم ذكراً) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة (رسولا يتلو عليكم آيات الله مبيّنات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور).

علماً أنّ هناك خلافاً بين المفسّرين في معنى كلمة "ذكر" ولكلمة "رسولا" اعتبر بعضهم أنّ "الذكر" يعني القرآن، بينما فسّرها البعض الآخر بأنّها تعني (رسول الله) لأنّ الرّسول هو سبب تذكّر الناس، وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ كلمة "رسولا" التي تأتي بعدها تعني شخص الرّسول، وليس في البين كلام محذوف.

ولكن يصبح معنى "الإنزال" هنا هو وجود الرّسول (ص) في الاُمّة وبعثه فيها من قبل الله تعالى.

ولكن إذا أخذنا "الذكر" بمعنى "القرآن" فإنّ كلمة "رسولا" لا يمكن أن تكون بدلا، وفي الجملة محذوف تقديره "أنزل الله إليكم ذكراً وأرسل إليكم رسولا".

قال البعض: أنّ "الرّسول" يُقصد به "جبرائيل" وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيّاً، نزل من السماء، غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة (يتلو عليكم آيات الله) لأنّ جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين.

وبصورة عامّة، فإنّ كلّ أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوّة ونقاط ضعف، ويبقى التّفسير أو الرأي الأوّل أفضل الآراء أي أنّ "الذكر" يقصد به "القرآن" و "رسولا" يقصد به رسول الله (ص).

وذلك لأنّ القرآن الكريم أطلق على نفسه "الذكر" في آيات كثيرة، خصوصاً أنّها كانت مقرونة بكلمة "إنزال" إلى الحدّ الذي أصبح كلّما جاءت عبارة "إنزال الذكر" تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم.

ثمّ نقرأ في الآية (44) من سورة النحل (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم).

وجاء في الآية (رقم 6) من سورة "الحجر" (وقالوا ياأيّها الذي نزل عليه الذكر إنّك لمجنون).

وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المقصود من "الذكر" هو رسول الله و "أهل الذكر" هم "الأئمّة"، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية، لأنّنا نعلم أنّ "أهل الذكر" في آية (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)النحل (43) ليس خصوص أهل البيت (عليهم السلام)، بل إنّ شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب، ولكن نظراً لإتّساع معنى الذكر فإنّه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه.

على أي حال فإنّ الهدف النهائي من إرسال الرّسول وإنزال هذا الكتاب السماوي، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وإرتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

والواقع أنّ تمام أهداف بعثة الرّسول (ص) ونزول القرآن يمكن تلخيصها بهذه الجملة، وهي الخروج من الظلمات إلى النور.

وتجدر الإشارة إلى أنّ "الظلمات" ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد، لأنّ الكفر والشرك والفساد تؤدّي إلى الفرقة والإختلاف، بينما يؤدّي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً).

وأشار بالفعل المضارع "يؤمن" و "يعمل" إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان، وإنّما لهما استمرار وديمومة(107).

والتعبير بـ (خالدين) دليل على كون الجنّة خالدة، وبذلك تكون كلمة "أبداً" التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود.

والتعبير بـ "رزقاً" بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهميّة الأرزاق الطيّبة التي يهيّؤها الله لهذه الجماعة، وقد يتّسع معناها ليشمل كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة، لأنّ الصالحين والمتّقين لهم حياتهم الكريمة حتّى في الحياة الدنيا.