الآيات 15 - 20

﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَـنِ إِذْ قَالَ لِلإنسَـنِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَـلَمِينَ (16) فَكَانَ عَـقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَـلِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَؤُا الظَّـلِمِينَ(17) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنَسـهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(18) لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـبُ النَّارِ وَأَصْحَـبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)﴾

التّفسير:

حيل الشيطان والمهالك:

يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصّة بني النضير والمنافقين ورسم خصوصية كلّ منهم في تشبيهين رائعين:

يقول سبحانه في البداية: (كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم)(1).

تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الإعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم، خاصّة وأنّ الفترة الزمنية بين الحادثتين غير بعيدة.

ويعتقد البعض أنّ المقصود بقوله: (الذين من قبلهم) هم مشركو مكّة الذين ذاقوا مرارة الهزيمة بكلّ كبريائهم في غزوة "بدر"، وأنهكتهم ضربات مقاتلي الإسلام، لأنّ هذه الحادثة لم يمرّ عليها وقت طويل بالنسبة لحادثة بني النضير، ذلك لأنّ حادثة بني النضير - كما أشرنا سابقاً - حدثت بعد غزوة "اُحد"، وغزوة بدر قبل غزوة اُحد بسنة واحدة، وبناءً على هذا فلم يمض وقت طويل بين الحادثتين.

في الوقت الذي يعتبرها كثير من المفسّرين إشارة إلى قصّة يهود "بني قينقاع"، التي حدثت بعد غزوة بدر، وإنتهت بإخراجهم من المدينة.

وطبيعي أنّ هذا التّفسير مناسب أكثر - حسب الظاهر - بإعتباره متلائماً أكثر مع يهود بني النضير، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهدّدون رسول الله (ص) والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية - كما سنذكر ذلك تفصيلا إن شاء الله - إلاّ أنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

"وبال" بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من (وابل) بمعنى المطر الغزير، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً ويقلق الإنسان من عاقبته المرتقبة، كالسيول الخطرة والدمار وما إلى ذلك.

ثمّ يستعرض القرآن الكريم تشبيهاً للمنافقين حيث يقول سبحانه: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال انّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين)(2).

ما المقصود بـ "الإنسان" في هذه الآية؟

هل هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة، ويسير به في طريق الكفر والضلال، ثمّ إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم؟.

أو أنّ المقصود به شخص خاصّ أو (إنسان معيّن) كأبي جهل وأتباعه، حيث أنّ ما حصل لهم في غزوة بدر كان نتيجة تفاعلهم مع الوعود الكاذبة للشيطان، وأخيراً ذاقوا وبال أمرهم وطعم المرارة المؤلمة للهزيمة والإنكسار، كما في قوله تعالى: (وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وانّي جار لكم فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لا ترون، إنّي أخاف الله والله شديد العقاب)(3).

أو أنّ المقصود منه هنا هو (برصيصا) عابد بني إسرائيل، حيث إنخدع بالشيطان وكفر بالله، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه وإبتعد عنه، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله...؟

التّفسير الأوّل هو الأكثر إنسجاماً مع مفهوم الآية الكريمة، أمّا التّفسيران الثاني والثالث فنستطيع أن نقول عنهما: إنّهما بيان بعض مصاديق هذا المفهوم الواسع.

وعلى كلّ حال فإنّ العذاب الذي يخشاه الشيطان - في الظاهر - هو عذاب الدنيا، وبناءً على هذا فإنّ خوفه جدّي وليس هزلا أو مزاحاً، ذلك لأنّ الكثير من الأشخاص يخشون العقوبات الدنيوية المحدودة، إلاّ أنّهم لا يأبهون للعقوبات البعيدة المدى ولا يعيرون لها إهتماماً.

نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اُتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.

وتتحدّث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة، حيث النار خالدين فيها، فيقول سبحانه عنهم: (فكان عاقبتهما أنّهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين)(4).

وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق، والشيطان وحزبه، هو الهزيمة والخذلان، وعدم الموفّقية، وعذاب الدنيا والآخرة، في الوقت الذي تكون ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء، وعاقبته الخير ونهايته الإنتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.

وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان إستنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين، حيث يقول تعالى: (ياأيّها الذين آمنوااتّقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد)(5).

ثمّ يضيف تعالى مرّة اُخرى للتأكيد بقوله: (واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون).

نعم، التقوى والخوف من الله يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.

إنّ تكرار الأمر بالتقوى هنا تأكيد محفّز للعمل الصالح، كما أنّ الرادع عن إرتكاب الذنوب هو التقوى والخوف من الله تعالى.

واحتمل البعض أنّ الأمر الأوّل للتقوى هو بلحاظ أصل إنجاز الأعمال، أمّا الثاني فإنّه يتعلّق بطبيعة الإخلاص فيها.

أو أنّ الأوّل ملاحظ فيه إنجاز أعمال الخير، بقرينة جملة (ما قدّمت).

والثاني ملاحظ فيه ما يتعلّق بتجنّب المعاصي والذنوب.

أو أنّ الأوّل إشارة إلى التوبة من الذنوب الماضية، والثاني (تقوى) للمستقبل.

إلاّ أنّه لا توجد قرينة في الآيات لهذه التفاسير، لذا فإنّ التأكّد أنسب.

والتعبير بـ (غد) إشارة إلى يوم القيامة، لأنّه بالنظر إلى قياس عمر الدنيا فإنّه يأتي مسرعاً، كما أنّ ذكره هنا بصيغة النكرة جاء لأهميّته.

والتعبير بـ (نفس) دلالة على مفرد، ويمكن أن تعني كلّ نفس، يعني كلّ إنسان يجب أن يفكّر بـ (غده) بدون أن يتوقّع من الآخرين إنجاز عمل له، وما دام هو في هذه الدنيا فإنّه يستطيع أن يقدّم لآخرته بإرسال الأعمال الصالحة من الآن إليها.

وقيل أنّه إشارة إلى قلّة الأشخاص الذين يفكّرون بيوم القيامة، كما نقول: (يوجد شخص واحد يفكّر بنجاة نفسه) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب حسب الظاهر، كما أنّ خطاب (ياأيّها الذين آمنوا) وعمومية الأمر بالتقوى، دليل على عمومية مفهوم الآية.

وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر الله سبحانه، حيث يقول تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم).

وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر الله تعالى، وذلك بالتوجّه والإنشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه وإستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كلّ الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في صحيفة أعمالنا ... ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.

والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ القرآن الكريم يعلن هنا - بصراحة - أنّ الغفلة عن الله تسبّب الغفلة عن الذات، ودليل ذلك واضح أيضاً، لأنّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلى إنغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية، وينسى خالقه، وبالتالي يغفل عن إدّخار ما ينبغي له في يوم القيامة.

ومن جهة اُخرى فانّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدّسة وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي، والغنى اللامحدود... وكلّ ما سواه مرتبط به، ومحتاج لذاته المقدّسة... كلّ ذلك يسبّب أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنياً عن المبدأ(6).

وأساساً فإنّ النسيان - بحدّ ذاته - من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.

وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله، ولهذا يقول سبحانه: (اُولئك هم الفاسقون).

وممّا يجدر بيانه أنّ الآية لم تقل "لا تنسوا الله"، بل وردت بعبارة (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وهي في الحقيقة بيان مصداق حسّي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة نسيان الله تعالى.

والظاهر أنّ المقصود في هذه الآية هم المنافقون والذين اُشير لهم في الآيات السابقة، أو أنّ الملاحظ فيها هم يهود بني النضير، أو كلاهما.

وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إنّ المنافقين هم الفاسقون)(7).

ومع وجود قدر من التفاوت بين الآيتين، أنّه ذكر نسيان الله هناك كسبب لقطع رحمة الله عن الإنسان، وفي هذه الآية محل البحث سبب لنسيان الذات.

وبالتالي فإنّ الآيتين تنتهيان إلى نقطة واحدة."فلاحظ"

وفي آخر آية - مورد البحث - يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين: الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد، والجماعة الغافلة عن ذكر الله، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن الله بنسيان ذاتها.

حيث يقول سبحانه: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنّة).

ليس في الدنيا، ولا في المعتقدات، وليس في طريقة التفكير والمنهج، وليس في طريقة الحياة الفردية والإجتماعية للإنسان وأهدافه، ولا في المحصّلة الاُخروية والجزاء الإلهي... إذ أنّ خطّ كلّ مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض... متعارض في كلّ شيء وكلّ مكان وكلّ هدف... إحداهما تؤكّد على ذكر الله والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون... والاُخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان(8)...وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق طريقين، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل، أو بالقسم الثاني، وليس غيرهما من سبيل آخر.

وفي نهاية الآية نلاحظ حكماً قاطعاً حيث يضيف سبحانه: (أصحاب الجنّة هم الفائزون).

فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضاً، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتّقين، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.

ونقرأ في حديث لرسول الله (ص) أنّه فسّر (أصحاب الجنّة) بالأشخاص الذين أطاعوه، وتقبّلوا ولاية علي (ع).

وأصحاب النار بالأشخاص الذين رفضوا ولاية علي (ع)، ونقضوا العهد معه وحاربوه(9).

وطبيعي أنّ هذا أحد المصاديق الواضحة لمفهوم الآية، ولا يحدّد عموميتها.

بحوث

1 - التعاون العقيم مع أهل النفاق

إنّ ما جاء في الآيات أعلاه حول نقض العهد من قبل المنافقين والتخلّي عن حلفائهم في المواقف الحرجة والحاسمة، هو مسألة ملاحظة في حياتنا العملية أيضاً... إنّهم شياطين يعدون هذا وذاك بالعون والدعم ويدفعونهم إلى لهوات الموت، ولكن حينما تحين ساعة الجدّ والضيق يتخلّون عنهم ويهربون منهم حفاظاً على أنفسهم، بالإضافة إلى أنّهم يملؤون قلوبهم بالشكّ والوسوسة ويدنسونهم بمختلف الذنوب.

وليعلم بهذا كلّ من يروم التعاون مع النفاق وأهله، حيث سيلقى نفس المصير السابق.

والنموذج الذي نلاحظه في عصرنا هو: طبيعة الإتفاقات التي تبرمها القوى الكبرى والشياطين المعاصرين مع رؤوساء الحكومات المرتبطة بهم، والذي نلاحظه بصورة متكرّرة أنّ هذه الدول بالرغم من أنّها وضعت كلّ ما تملك في طبق وقدّمته لهؤلاء المستكبرين... إلاّ أنّ هؤلاء خذلوهم في المواطن الصعبة والساعات الحرجة، فتركوهم لوحدهم حيث تتقاذفهم أعاصير المحن وأمواج الأزمات، وحيث يتجسّد فيهم قول الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم بشأنهم: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين).

2 - قصّة العابد (برصيصا)

نقل بعض المفسّرين وأئمّة الحديث في نهاية الآيات رواية قصيرة عن عابد إسرائيلي إسمه (برصيصا) وهذه القصّة في الحقيقة يمكن أن تكون موضع إعتبار وعظة للبشرية أجمع، كي يتجنّبوا طريق الهلاك، ويحذروا من الوقوع في مصيدة الشراك الشيطانية النخرة والتي تكون نتيجتها - حتماً - السقوط في الهاوية.

وخلاصة ما جاء في هذه القصّة ما يلي:

يدّعي "برصيصا" قد عبد الله زماناً من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يديه، وانّه أُتي بامرأة قد جنّت وكان لها اُخوة فأتوه بها فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلمّا إستبان حملها قتلها ودفنها، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقى أحد اُخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقيّة اُخوتها، وهكذا إنتشر الخبر فساروا إليه فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل، فاُمر به فصلب، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، وأنا والذي أوقعتك في هذا، فأطعني فيما أقول اُخلّصك ممّا أنت فيه، قال نعم.

قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة، فقال: أكتفي منك بالإيماء، فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل، فهو قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ...)(10).

نعم هكذا هو مصير من ابتلي بوسوسة الشيطان وسار في خطّه.

3 - ما ينبغي عمله

أكّدت الآيات محل البحث وجوب إهتمام الإنسان بما يرسله من متاع سلفاً لغده في يوم القيامة، قال تعالى: (ولتنظر نفس ما قدّمت لغد) حيث أنّ هذه الذخيرة الاُخروية تمثّل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة، لذا فإنّ هذا النوع من الأعمال الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقاً، وإلاّ فلا أحد يهتمّ له بعد وفاته وإنقضاء أجله، وإذا أُرسل شيئاً فليس له شأن يذكر.

قال رسول الله (ص): "تصدّقوا ولو بصاع من تمر، ولو ببضع صاع ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، ولو تمرة، ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة، فإنّ أحدكم يلقى الله، فيقال له: ألم أفعل بك، ألم أفعل بك، ألم أجعلك سميعاً بصيراً، ألم أجعل لك مالا وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدّمت لنفسك، قال: فينظر قدّامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئاً يقي به وجهه من النار"(11).

ونقرأ في حديث آخر أنّ الرّسول (ص) كان جالساً مع عدد من أصحابه، إذ دخل قوم من قبيلة "مضر"، متقلّدين السيف ومتهيئين للجهاد في سبيل الله، إلاّ أنّ ملابسهم رثّة، فعندما رأى رسول الله (ص) آثار الطاقة والجوع عليهم، تغيّرت ملامح وجهه، فدعا الناس إلى المسجد وارتقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "أمّا بعد، ذلكم فإنّ الله أنزل في كتابه: (ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد... ) تصدّقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدّقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة، تصدّق امرؤ من ديناره، تصدّق امرؤ من درهمه، تصدّق امرؤ من برّه، من شعيره، من تمره، لا يحقّرن شيء من الصدقة ولو بشقّ تمرة".

فقام رجل من الأنصار، وأعطى كيساً لرسول الله (ص) فظهرت آثار الفرحة والسرور على وجهه المبارك، ثمّ قال (ص): "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها، لا ينقص من اُجورهم شيئاً، ومن سنّ سنّة سيّئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئاً.

فقام الناس فتفرّقوا فمن ذي دينار ومن ذي درهم ومن ذي طعام ومن ذي ومن ذي فاجتمع فقسّمه بينهم".

وقد أكّدت هذا المعنى آيات قرآنية اُخرى ولمرّات عديدة، ومن جملة ذلك ما ورد في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إنّ الله بما تعملون بصير)(12).


1- مجمع البيان، ج9، ص262.

2- روح البيان، ج9، ص439، وجاء نفس هذا المعنى بإختلافات عديدة في تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص199.

3- آل عمران، الآية 151.

4- هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مثلهم كمثل الذين من قبلهم.

5- بالرغم من أنّ التعبير بـ (كمثل) في هذه الآية وفي الآية السابقة متشابهان، فإنّ بعض المفسّرين اعتبر الإثنين دليلا على مجموعة واحدة، إلاّ أنّ القرائن تبيّن بوضوح أنّ الأوّل يحكي وضع يهود بني النضير، والثاني يحكي وضع المنافقين، وعلى كلّ حال فإنّ هذه العبارة أيضاً خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم كمثل الشيطان.

6- الأنفال، الآية 48.

7- "عاقبتهما" خبر "كان" ومنصوب، و (إنّهما في النار) جاءت بمكان اسم كان و "خالدين" حال لضمير "هما".

8- "ما" في (ما قدّمت لغد) هل أنّها موصولة أو إستفهامية؟ هناك إحتمالان، والآية الشريفة لها القدرة على تقبّل الإحتمالين، بالرغم من أنّ الإستفهامية أنسب.

9- الميزان، ج19، ص253.

10- التوبة، الآية 67.

11- حذف المتعلّق أي متعلّق "لا يستوي" دليل على العموم.

12- نور الثقلين، ج5، ص292.