الآيات 8 - 10

﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَـجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـرِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يِبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الصَّـدِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالإيمَـنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَـنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(10)﴾

التّفسير:

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين:

هذه الآيات - التي هي إستمرار للآيات السابقة - تتحدّث حول طبيعة مصارف الفيء الستّة، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم.

يقول تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم(1)يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اُولئك هم الصادقون).

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمّة وأساسية للمهاجرين الأوائل، تتلخص بـ: (الإخلاص والجهاد والصدق).

ثمّ تتناول الآية مسألة (ابتغاء فضل الله ورضاه) حيث تؤكّد هذه الحقيقة وهي: أنّ هجرتهم لم تكن لدنيا أو لهوى نفس، ولكن لرضا الله وثوابه.

وبناءً على هذا فـ (الفضل) هنا بمعنى الثواب.

و "الرضوان" هو رضا الله تعالى الذي يمثّل مرحلة أعلى من مرتبة الثواب.

كما بيّنت ذلك آيات عديدة في القرآن الكريم، ومنها ما جاء في الآية 29 من سورة الفتح، حيث وصف أصحاب رسول الله(ص) بهذا الوصف (تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلا من الله ورضواناً).

ولعلّ التعبير بـ (الفضل) إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين يتصوّرون أنّ أعمالهم قليلة جدّاً لا تستحقّ الثواب، ويعتقدون أنّ الثواب الذي غمرهم هو لطف إلهي.

ويرى بعض المفسّرين "الفضل" هنا بمعنى الرزق، أي رزق الدنيا، فقد ورد في بعض الآيات القرآنية بهذا المعنى أيضاً، ولكن بما أنّ المقام هو مقام بيان إخلاص المهاجرين، لذا فإنّ هذا المعنى غير مناسب، والمناسب هو الجزاء والثواب الإلهي.

كما لا يستبعد أن يكون المراد من "الفضل" إشارة للنعم الجسمية، و"الرضوان" هو إشارة للنعم الروحية والمعنوية، والجميع مرتبط بالآخرة وليس بالدنيا.

ثمّ إنّ "المهاجرين" ينصرون المبدأ الحقّ دائماً، وعوناً لرسول الله (ص) ولم يتوقّفوا في جهادهم بهذا السبيل لحظة واحدة (يرجى ملاحظة: أنّ فعل (ينصرون) بصيغة المضارع، وهو دليل على الإستمرار).

ومن هنا يتّضح أنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الإدّعاءات الفارغة، بل هم رجال حقّ وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرّة.

وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلاّ أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الاُمور: بالإيمان، وفي محبّة الرّسول، وفي التزامهم بمبدأ الحقّ... ومن الواضح أنّ هذه الصفات كانت لأصحاب الرّسول في زمن نزول هذه الآيات، إلاّ أنّنا نعلم أنّ أشخاصاً من بينهم قد فرّطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم، وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة، وصفين في الشام، وحاربوا خليفة رسول الله (ص) الذي كان واجب الطاعة بإجماع المسلمين، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين... وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين، فيقول سبحانه: (والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم).

"تبؤوا" من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة اُخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أنّ طائفة الأنصار - أهل المدينة - قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى "العقبة" - وهي مضيق قرب مكّة - وبايعوا رسول الله متنكّرين، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين، ومعهم "مصعب بن عمير" ليعلّمهم اُمور دينهم وليهيء الأرضية المناسبة لهجرة الرّسول (ص).

وبناءً على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لإستقبال المهاجرين فحسب، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

والتعبير (من قبلهم) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الاُمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة، وهذا أمر مهمّ.

وإنسجاماً مع هذا التّفسير، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول الله (ص) أنّه أعطى شخصين أو ثلاثة أشخاص من الأنصار - فقط - من أموال بني النضير، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقاً للفقير، فيمكن إعتبارهم مصداقاً لأبناء السبيل(2).

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اُخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة، حيث يقول تعالى: (يحبّون من هاجر إليهم).

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

والأمر الآخر: (ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أتوا) فهم لا يطمعون بالغنائم التي اُعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتّى يحسّون بحاجة إلى ما اُعطي للمهاجرين منها، وأساساً فإنّ هذه الاُمور لا تخطر على بالهم.

وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(3).

ومن هذه السمات الثلاث: "المحبّة" و "عدم الطمع" و "الإيثار"، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة.

ونقل المفسّرون قصصاً متعدّدة في شأن نزول هذه الآية:

يقول ابن عبّاس: إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار: علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(4).

ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصاً أتى رسول الله (ص) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (ص) إلى منزله، فقالت زوجته: ما عندنا إلاّ الماء، فقال رسول الله: من لهذا الرجل الليلة، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته، ولم يكن لديه إلاّ القليل من الطعام لأطفاله.

وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج، ثمّ قال لزوجته: نوّمي الصبية، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئاً في أفواههم، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول الله (ص) فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم)، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم.

ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المضيف هو الإمام علي (ع) وأطفاله الحسن والحسين (عليهم السلام)، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعاً هي فاطمة الزهراء (ع)(5).

ويجدر الإنتباه هنا إلى أنّ القصّة الاُولى يمكن أن تكون سبباً لنزول الآية، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة.

وبناءً على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام علي (ع).

وذكر البعض - أيضاً - أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة اُحد، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضاً، وحتّى انتهى إليهم جميعاً وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا(6).

ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة.

وفي نهاية الآية - ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق - يضيف سبحانه: (ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون).

"الشحّ" كما يقول الراغب في المفردات: البخل مقترناً بالحرص عادةً.

"يوق" من مادّة وقاية، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول، إلاّ أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال لأحد أصحابه: أتدري ما الشحّ؟ فأجاب: هو البخيل، قال (ع): "الشحّ أشدّ من البخل، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس، وعلى ما في يده، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئاً إلاّ تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عزّوجلّ"(7).

ونقرأ في حديث ثان: "لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم"(8).

وبالجملة، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته.

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين، الذين عرفوا بيننا بإصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين)، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة.

يقول تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم).

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد إنتصار الإسلام وفتح مكّة، إلاّ أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة، إلاّ أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة.

وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم، الذين ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة، وهم: (المهاجرون والأنصار والتابعون).

جملة (والذين جاؤوا... ) حسب الظاهر عطف على (للفقراء المهاجرين)وذلك لبيان هذه الحقيقة، وهي أنّ أموال "الفيء" لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

ويحتمل أيضاً أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة (والذين جاؤوا... ) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل - بالنظر إلى إنسجامه مع الآيات السابقة - هو الأنسب.

والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين:

الاُولى: أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى.

والثّانية: النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والإحترام إلى من سبقهم بالإيمان، ويطلبون لهم أيضاً العفو والمغفرة من الله تعالى.

الثّالثة: أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق.

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و (الإحترام للسابقين في الإيمان) و (الإبتعاد عن الحسد والبغضاء).

"غِلّ" على وزن (سِلّ)، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلَل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة، يقال لها: "غِلْ".

وبناءً على هذا فإنّ (الغِلّ) ليس فقط بمعنى الحسد، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقياً.

والتعبير بـ (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاُخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع.

فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب، بل للآخرين أيضاً، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي.

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ:

يصرّ بعض المفسّرين - بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين - على إعتبار جميع الصحابة بدون إستثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكلّ خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرّسول (ص) أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامّة، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلاّ أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي "المهاجرين": الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي "الأنصار": المحبّة للمهاجرين والإيثار، والإبتعاد عن كلّ حرص وبخل.

وفي "التابعين": بناء أنفسهم، والإحترام للسابقين في الإيمان، والإبتعاد عن كلّ بغض وحسد.

ومع كلّ هذا، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام علي (ع)في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه، ولم يراعوا اُخوته في الله، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا إنتقادهم، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت.

وبناءً على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم، سواء على عهد رسول الله(ص) أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحدّدها - بما يناسب - مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.


1- يراجع كتاب فدك، ص49.

2- شرح ابن أبي الحديد، ج16، ص209 وما بعدها.

3- صحيح مسلم، ج3 ص1380، حديث52 عن كتاب الجهاد.

4- "للفقراء" بدل وتفسير لابن السبيل.

5- إلاّ أنّه وطبقاً لتفسير آخر فإنّ (والذين تبوّؤا الدار) تكون مبتدأ، و (يحبّون) خبرها، وإجمالا فإنّها تشكّل جملة مستقلّة، ولا ترتبط بالجملة السابقة التي تتحدّث حول مصاريف الفيء، إلاّ أنّ من الواضح أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

6- "خصاصة" من مادّة (خصاص) على وزن (أساس) بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّاً، لذا عبّر عنه بالخصاصة.

7- مجمع البيان، ج9، ص260.

8- المصدر السابق.