الآيتان 6 - 7

﴿وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلَـكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (6) مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا ءَاتَـكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾

سبب النّزول:

بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدّث عن إندحار يهود بني النضير، لذا فإنّ سبب نزولها هو إستمرار لنفس أسباب نزول الآيات السابقة.

والتوضيح كما يلي:

بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم وقسم من أموالهم في المدينة، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول الله (ص)تماشياً مع سنّة جاهلية - حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم، واترك لنا المتبّقي كي نقسّمه بيننا، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أنّ هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال، ولم تكن نتيجة حرب، فإنّها جميعاً من مختصات الرّسول (ص) بإعتباره رئيساً للدولة الإسلامية، ويتصرّف بها كما يشاء، وفقاً لما يقدره من المصلحة في ذلك.

وسنلاحظ أنّ الرّسول (ص) قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة(1).

التّفسير:

حكم الغنائم بغير الحرب:

إنّ هذه الآيات - كما ذكر سابقاً - تبيّن حكم غنائم بني النضير، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكماً عاماً حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).

يقول الله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما اُوجفتم عليه من خيل ولا ركاب)(2).

"أفاء" من مادّة (فيء) على وزن شيء - وهي في الأصل بمعنى الرجوع، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه بإعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين، وعلى رأسهم الرّسول الأعظم (ص) الذي هو أشرف الكائنات، وبناءً على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من إمتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية، إلاّ أنّهم يعتبرون غاصبين لها، ولذلك فإنّ عودة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئاً) في الحقيقة.

"أوجفتم" من مادّة (إيجاف) بمعنى السَّوق السريع الذي يحدث غالباً في الحروب.

"خيل" بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول)(3).

"ركاب" من مادّة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً.

ثمّ يضيف سبحانه أنّ الإنتصارات لا تكون غالباً لكم (ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كلّ شيء قدير).

نعم، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي، ولتعلموا أنّ الله قادر على كلّ شيء، ويستطيع سبحانه بلحظة واحدة أن يذلّ الأقوياء، ويسلّط عليهم فئة قليلة توجّه لهم ضربات موجعة وتسلب جميع إمكاناتهم.

ولابدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية، ويلاحظوا علائم حقّانية النبي (ص)، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكّل على الذات الإلهية المقدّسة في جميع ممارساتهم.

وهنا قد يتبادر سؤال وهو: إنّ الحصول على غنائم بني النضير لم يتمّ بدون حرب، بل إنّ المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها، وقيل أنّ إشتباكاً مسلّحاً قد حصل في حدود ضيّقة بين الطرفين.

وفي مقام الجواب نقول: بأنّ قلاع بني النضير - كما ذكروا - لم تكن بعيدة عن المدينة، وذكر بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأنّ المسلمين ذهبوا إليها سيراً على أقدامهم، وبناءً على هذا فلم يواجهوا مشقّة حقيقية.

أمّا بالنسبة لموضوع الإشتباك المسلّح فإنّه لم يثبت من الناحية التأريخية، كما أنّ الحصار لم يستمرّ طويلا، وبناءً على هذا فإنّنا نستطيع القول بأنّه لم يحدث شيء يمكن أن نسمّيه قتالا، ولم يرق دم على الأرض.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفيء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة: (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلّله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرّسول (ص) وسائر المحتاجين، والأربعة الأخماس الاُخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول الله (ص) فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعاً في موارده الشخصية، وإنّما اُعطيت له لكونه رئيساً للدولة الإسلامية، وخاصّة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

وقد ذكر في هذه الآية بصورة عامّة ستّ مصارف للفيء.

1 - سهم لله، ومن البديهي أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء، وفي نفس الوقت غير محتاج لأي شيء، وهذا نوع من النسبة التشريفية، حتّى لا يحسّ بقيّة الأصناف اللاحقة بالحقارة والذلّة، بل يرون سهمهم مرادفاً لسهم الله عزّوجلّ، فلا ينقص من قدرهم شيء أمام الناس.

2 - سهم الرّسول: ومن الطبيعي أن يصرف لتأمين إحتياجاته الشخصية (ص)وما يحتاجه لمقامه المقدّس وتوقّعات الناس منه.

3 - سهم ذوي القربى: والمقصود بهم هنا وبدون شكّ أقرباء الرّسول (ص)وبني هاشم، حيث أنّهم مستثنون من أخذ الزكاة والتي هي جزء من الأموال العامّة للمسلمين(4).

وأساساً لا دليل على أنّ المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الناس جميعاً، لأنّه في هذه الحالة ستشمل جميع المسلمين، لأنّ الناس بعضهم أقرباء بعض.

ولكن هل هناك شرط يقضي أن يكون ذوو القربى من المحتاجين والفقراء أو لا يشترط ذلك؟ لقد إختلف المفسّرون في ذلك بالرغم من أنّ القرائن الموجودة في نهاية هذه الآية والآية اللاحقة توضّح لزوم شرط الحاجة.

(4، 5، 6): "سهم اليتامى" و "المساكين" و "أبناء السبيل"، وهل أنّ جميع هؤلاء يلزم أن يكونوا هاشميين أو أنّها تشمل عموم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

إختلف المفسّرون في ذلك، ففقهاء أهل السنّة ومفسّروهم يعتقدون أنّ هذا الأمر يشمل العموم، في الوقت الذي إختلفت الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)في هذا المجال، إذ يستفاد من قسم منها أنّ هذه الأسهم الثلاثة تخصّ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم فقط، في حين صرّحت روايات اُخرى بعمومية هذا الحكم، ونقل أنّ الإمام الباقر (ع) قال: "كان أبي يقول: لنا سهم رسول الله، وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي"(5).

والآيات الثامنة والتاسعة من هذه السورة، التي هي توضيح لهذه الآية، تؤيّد أيضاً أنّ هذا السهم لا يختّص ببني هاشم، لأنّ الحديث دالّ على عموم فقراء المسلمين من المهاجرين والأنصار.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد نقل المفسّرون أنّ الرّسول (ص) بعد حادثة بني النضير قسّم الأموال المتبقية بين المهاجرين من ذوي الحاجة والمسكنة، وعلى ثلاثة أشخاص من طائفة الأنصار، وهذا دليل آخر على عمومية مفهوم الآية.

وإذا لم تكن بعض الروايات متناسبة معها، فينبغي ترجيح ظاهر القرآن(6).

ثمّ يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء(7).

وذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الجملة بشكل خاصّ، واُشير له بشكل إجمالي في السابق، وهو أنّ مجموعة من زعماء المسلمين قد جاؤوا لرسول الله(ص) بعد واقعة بني النضير، وقالوا له: خذ المنتخب وربع هذه الغنائم، ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا، كما كان ذلك في زمن الجاهلية.

فنزلت الآية أعلاه تحذّرهم من تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلا أساسيّاً في الإقتصاد الإسلامي وهو: وجوب التأكيد في الإقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها، مع كامل الإحترام للملكية الشخصية، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع من الاُمّة.

ومن الطبيعي ألاّ نقصد من ذلك وضع قوانين وتشريعات من تلقاء أنفسنا ونأخذ الثروات من فئة ونعطيها لآخرين، بل المقصود تطبيق القوانين الإسلامية في مجال كسب المال، والإلتزام بالتشريعات المالية الاُخرى كالخمس والزكاة والخراج والأنفال بصورة صحيحة، وبذلك نحصل على النتيجة المطلوبة، وهي إحترام الجهد الشخصي من جهة، وتأمين المصالح الإجتماعية من جهة اُخرى، والحيلولة دون إنقسام المجتمع إلى طبقتين: (الأقليّة الثريّة والأكثرية المستضعفة).

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب).

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير، إلاّ أنّ محتواها حكم عام في كلّ المجالات، ومدرك واضح على حجيّة سنّة الرّسول(ص).

وطبقاً لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون بإتّباع التعاليم المحمّدية، وإطاعة أوامر رسول الله (ص)، وإجتناب ما نهى عنه، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الإقتصادية أو العبادية وغيرها، خصوصاً أنّ الله سبحانه هدّد في نهاية الآية جميع المخالفين لتعاليمه بعذاب شديد.

بحوث

1 - مصارف الفيء

"الفيء" كما قلنا هو الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب، وهذه الأموال كانت توضع تحت تصرّف الرّسول (ص) بإعتباره رئيساً للدولة الإسلامية، وهي أموال كثيرة في الغالب، وخاصّة في بداية الفتوحات الإسلامية ويقدر لهذه الأموال أن تلعب دوراً هامّاً في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي، خلافاً لما كان متّبعاً في الجاهلية حيث تقسّم هذه الأموال بين أغنياء القوم فقط، في حين أنّها وضعت مباشرةً تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية في التشريع الإسلامي فيصرفها كما يرى حسب الأولويات.

وكما قلنا في بحث الأنفال فإنّ هذه الأموال تشكّل قسماً من "الفيء"، والقسم الآخر من الفيء هو كلّ الأموال التي يكون مالكها مجهولا، كما وضّح ذلك في الفقه الإسلامي، وتبلغ إثنتا عشرة فقرة، وبهذا فإنّ قسماً كبيراً من النعم والهبات الإلهيّة توضع تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية عن هذا الطريق، ومن ثمّ تحت تصرّف المحتاجين(8).

ويتّضح ممّا تقدّم أن لا تضادّ بين الآية الاُولى والآية الثانية، بالرغم من أنّ الآية الاُولى تضع الفيء تحت تصرّف شخص الرّسول، والآية الثانية توضّح لنا ستّة أبواب لمصارف الفيء، على أن يراعى في صرفها الأولويات الخاصّة.

وبتعبير آخر، فإنّ الرّسول (ص) لا يريد الأموال لاُموره الشخصية، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الاُمور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عامّ.

وممّا يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحقّ ينتقل من بعد الرّسول (ص) إلى الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، ومن بعدهم إلى نوّابهم، يعني (كلّ مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها.

وقسم من هذه الاُسس قنّنت ضمن الهيكل الإقتصادي العامّ للمجتمع الإسلامي، كما أنّها تمثّل مبدأً أساسيّاً في النظام الإقتصادي للدولة الإسلامية.

2 - جواب على سؤال:

يمكن أن يطرح هذا السؤال: كيف ألزم الله سبحانه جميع الناس - بدون إستثناء - بقبول التعاليم الصادرة من قبل الرّسول (ص) بدون قيد وشرط؟

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بملاحظة انّنا نعتبر الرّسول (ص) معصوماً، لذا كان هذا الحقّ له ولخلفائه المعصومين من بعده ضمن هذا الفهم أيضاً.

والملفت للنظر أنّ الروايات العديدة قد أشارت لهذه المسألة أيضاً، وهي أنّ الله سبحانه منح كلّ تلك الإمتيازات للرسول (ص) لأنّ الله عزّوجلّ إختبره وإمتحنه بشكل كامل ولما له من خلق عظيم وسجايا حميدة، لذا فوّض له مثل هذا الحقّ(9).

3 - القصّة المؤلمة لـ (فدك)

"فدك": إحدى القرى المثمرة في أطراف المدينة، وتبعد 140كم عن خيبر تقريباً، ولمّا سقطت قلاع "خيبر" في السنة السابعة للهجرة، الواحدة تلو الاُخرى أمام قوّة المسلمين، واندحر اليهود... جاء ساكنو فدك يطلبون الصلح مع رسول الله(ص) وأعطوا نصف أراضيهم وبساتينهم لرسول الله واحتفظوا بالقسم الآخر لأنفسهم، وتعهّدوا للرسول بزراعة أراضيه وأخذ الاُجرة عوض الجهد الذي يبذلونه.

ومن خلال ملاحظة التفاصيل التي وردت حول (الفيء) في هذه السورة، فإنّ هذه الأرض كانت من مختّصات الرّسول (ص) ومن صلاحيته أن يصرفها في شؤونه الشخصية، أو ما يراه من المصارف الاُخرى التي اُشير إليها في الآية السابعة من نفس هذه السورة، لذلك فإنّ الرّسول (ص) وهبها لإبنته فاطمة(ع).

وهذا الحديث صرّح به الكثيرون من المؤرّخين والمفسّرين من أهل السنّة والشيعة، ومن جملة ما ورد في تفسير الدرّ المنثور، نقلا عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى: (فآت ذا القربى حقّه)(10) أنّه (ص) عندما نزلت هذه الآية عليه أعطى فدكاً لفاطمة.

(أقطع رسول الله فاطمة فدكاً)(11).

وجاء في كتاب كنز العرفان، أنّه جاء في حاشية مسند (أحمد) حول مسألة صلة الرحم أنّه نقل عن أبي سعيد الخدري أنّ الآية أعلاه عندما نزلت على الرّسول(ص) دعا الرّسول فاطمة، وقال: "يافاطمة لك فدك"(12).

وقد أورد الحاكم النيسابوري هذا المعنى في تأريخه(13).

وقد ذكر ابن أبي الحديد قصّة فدك بصورة مفصّلة في شرح نهج البلاغة(14)، كما ذكرت كذلك في كتب اُخرى كثيرة.

إلاّ أنّ بعض أصحاب رسول الله (ص) كان يعتقد أنّ وجود (فدك) بيد زوجة الإمام علي (ع) تمثّل قدرة إقتصادية يمكن أن تستخدم في مجال التحرّك السياسي الخاصّ بالإمام علي (ع).

ومن جهة اُخرى كان هنالك موقف وتصميم على تحجيم حركة الإمام (ع) وأصحابه في المجالات المختلفة، لذا تمّت مصادرة تلك الأرض بذريعة الحديث الموضوع: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).

مع أنّ (فدك) كانت بيد فاطمة (ع)، وذو اليد لا يطالب بشهادة أو بيّنة.

والجدير بالذكر أنّ الإمام علي (ع) قد أقام الشهادة على أنّ رسول الله (ص) قد منح فدكاً إلى فاطمة.

إلاّ أنّهم مع كلّ هذا لم يرتّبوا أثراً على هذه الشهادة.

وقد إستعملت قضيّة فدك عبر العصور التأريخية المختلفة كموضوع يراد التظاهر من خلاله بالودّ لأهل البيت (عليهم السلام) من قبل بعض الخلفاء وذلك لمآرب سياسيّة، فكانوا يرجعون فدكاً لآل الرّسول تارةً، ويصادرونها ثانية، وقد تكرّر هذا الفعل عدّة مرّات في فترات حكم خلفاء بني اُميّة وبني العبّاس.

وقصّة فدك وما رافقها من أحداث مؤلمة وقعت في صدر الإسلام هي من أكثر القصص ألماً وحزناً، وفي نفس الوقت تكاد أن تكون من أكثر حوادث التاريخ عبرةً، ولابدّ من التوقّف عندها والتأمّل في أحداثها المختلفة ضمن بحث محايد دقيق.

والجدير بالملاحظة أنّه روى مسلم في صحيحه قال: (حدّثني محمّد بن رافع، أخبرنا حُجين، حدّثنا ليث بن عقيل، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة، أنّها أخبرته أنّ فاطمة بنت رسول أرسلت إلى أبي بكر الصدّيق تسأله ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله قال: "لا نورّث ما تركناه صدقة إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال" وانّي والله لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله... فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك.

قال: (فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت)(15).


1- تفسير الفخر الرازي، ج29، ص283.

2- مجمع البيان، ج2، ص519، (نهاية الآية 151/ آل عمران).

3- إثبات الهداة، ج7، ص124.

4- مجمع البيان نهاية الآيات مورد البحث وتفاسير اُخرى.

5- "ما" في (ما أفاء الله ورسوله) موصولة في محلّ رفع مبتدأ وما في (ما أوجفتم عليه) نافية، ومجموع هذه الجملة خبر، وهنالك إحتمال ثان: وهو أنّ (ما) في (ما أفاء) شرطية، (وما) الثانية مع جملتها تكون جواباً للشرط ومجيء (الفاء) في صدر جملة الخبر حينما تكون فيها شبيهة بالشرط، فلا إشكال فيه.

6- يقول الراغب في المفردات: إنّ الخيل في الأصل من مادّة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالباً، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبيه.

7- هذا التّفسير لم يأت به الشيعة فقط، حيث جاء ذكره في تفاسير أهل السنّة أيضاً، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في التّفسير الكبير، والبرسوني في روح البيان، وسيّد قطب في ظلال القرآن، والمراغي في تفسيره والآلوسي في روح المعاني.

8- مجمع البيان، ج9، ص261، ووسائل الشيعة، ج، ص368، حديث12 وباب واحد من أبواب الأنفال.

9- وسائل الشيعة، ج6، ص356، (حديث4، باب واحد من أبواب الأنفال).

10- (دولة) بفتح الدال وضمّها بمعنى واحد، وفرّق البعض بين الإثنين وذكر أنّ (دولة) بفتح الدال تعني الأموال، أمّا بضمّها فتعني الحرب والمقام، وقيل أنّ الأوّل اسم مصدر، والثاني مصدر، وعلى كلّ حال فإنّ لها أصلا مشتركاً من مادّة "تداول" بمعنى التعامل من يد إلى اُخرى.

11- الموارد الإثني عشر للأنفال هي:

ـ الأراضي التي تركها أهلها ورحلوا عنها كـ (أراضي يهود بني النضير).

ـ الأراضي التي تركها أصحابها برغبة منهم إلى رئيس الدولة الإسلامية مثل (فدك).

ـ أراضي الموات.

ـ سواحل البحار.

ـ قمم الجبال.

ـ الوديان.

ـ الغابات والآجام.

ـ الغنائم الحربية الثمينة الخاصّة بالملوك.

ـ ما يختاره قائد المسلمين من الغنائم العامّة لنفسه.

ـ الغنائم الحاصلة من الحروب التي لم يأذن بها الحاكم الشرعي.

ـ المعادن.

ـ ميراث من لا وارث له. ومن الطبيعي أنّ في بعض الموارد أعلاه قد حصلت إختلافات بين الفقهاء إلاّ أنّ الأكثرية الغالبة قد إعتبرت هذه الموارد، ويمكن مراجعة ذلك في الكتب الفقهية.

12- الروايات التي تناولت هذا البحث عديدة يمكن مراجعتها في ج5، ص279 - 283 من تفسير نور الثقلين.

13- الروم، الآية 38.

14- الدرّ المنثور، ج4، ص177.

15- كنز العمّال، ج2، ص158.