الآيات 1 - 3
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (2) هُوَ الاَْوَّلُ وَالاَْخِرُ وَالظَّـهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (3)﴾
التّفسير:
آيات للمتفكّرين:
قلنا: إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات الله سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية بالله، وتعمّق معرفته بذاته المقدّسة، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلّما تعمّق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة.
عندما سئل الإمام علي بن الحسين (ع) عن التوحيد أجاب: "إنّ الله عزّوجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد)، والآيات في سورة الحديد إلى قوله: (عليم بذات الصدور) ومن رام وراء ذلك فقد هلك"(1).
يستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الآيات تعطي للظمأى من طلاّب الحقيقة أقصى حدٍّ للمعرفة الممكنة.
وعلى كلّ حال فإنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه الله عزّوجلّ حيث يقول سبحانه: (سبّح لله ما في السموات والأرض).
لقد إنتهت السورة السابقة بأمر التسبيح، وإبتدأت هذه السورة المباركة بالتسبيح الإلهي أيضاً.
والجدير بالملاحظة أنّ في سور المسبّحات الخمس جاءت كلمة التسبيح ثلاث مرّات بصيغة الماضي (سبّح) في سور الحديد والحشر والصفّ، وفي موردين جاءت بصيغة المضارع (يسبّح) في سور الجمعة والتغابن، وهذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ جميع الكائنات في العالم قد سبّحت وتسبّح لذاته المقدّسة في الماضي والمستقبل.
وحقيقة "التسبيح" عبارة عن نفي كلّ عيب ونقص (2) عن الذات الإلهيّة، وشهادة جميع الكائنات في هذا العالم بطهارة ذاته من كلّ عيب، حيث أنّ النظم والحساب والحكمة والعجائب في نظام الكائنات...هذه جميعها تذكر (الله) بلسان حالها وتسبّحه وتحمده وتنزّهه وتؤكّد أنّ لخالقها قدرة لا متناهية، وحكمة لا محدودة.
ولذا جاء في نهاية هذه الآية: (وهو العزيز الحكيم).
كما يحتمل أن تتمتّع جميع ذرّات الوجود بنوع من الإدراك والشعور بحيث تسبّح وتحمد الله عزّوجلّ في عالمها الخاصّ، بالرغم من عدم معرفتنا لذلك بسبب محدودية علمنا وإطّلاعنا.
من أجل تفصيل أكثر حول حمد وتسبيح الكائنات أجمع يراجع نهاية الآية (44) من سورة الإسراء.
ويجدر الإنتباه إلى أنّ (ما) في جملة (سبّح لله ما في السماوات) لها معنى واسع بحيث تشمل كلّ موجودات العالم، أعمّ من ذوي العقول والأحياء والجمادات(3).
وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزّة والحكمة) يتطرّق إلى (مالكيّته وتدبيره، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة، حيث يقول تعالى: (له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير).
إنّ مالكية الله عزّوجلّ لعالم الوجود ليست مالكية إعتبارية وتشريعية، إذ أنّها مالكية حقيقيّة وتكوينيّة.
وهذا يعني أنّ الله سبحانه محيط بكلّ شيء، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كلّ شيء.
إلى هنا ذُكرت في الآيتين الآنفتين ستّة أوصاف من صفاته الكريمة.
الإختلاف بين "العزّة" و "القدرة" هو أنّ العزّة أكثر دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناءً على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).
مسألة (الإحياء والإماتة) قد ذكرت في آيات عديدة في القرآن الكريم، وفي الواقع انّهما من الموضوعات التي لم تتوضّح أسرارهما المعقّدة لأي شخص، كما لا يوجد شخص يعلم - بوضوح - حقيقة الحياة ولا حقيقة الموت، إلاّ أنّ الذي نعلمه عنهما هو آثارهما.
والعجيب أنّ الحياة أقرب شيء لنا ولكنّنا لا نعرف أي شيء عن حقيقتها وأسرارها.
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ جملة (يحيي ويميت) جاءت بصورة فعل مضارع ممّا يدلّل على إستمرار مسألة الحياة والموت على طول الأزمنة، وإطلاق هذين المعنيين لا يشمل حياة وموت الإنسان في هذا العالم فقط، بل يشمل كلّ حياة وممات بدءاً من الملائكة وإنتهاءاً بكلّ موجود حيّ من الحيوانات والنباتات المختلفة، كما أنّها لا تقتصر على الحياة الدنيا فقط، بل تشمل حياة البرزخ والقيامة أيضاً.
نعم، إنّ الموت والحياة بكلّ أشكالها بيد القدرة الإلهية المتعالية.
ثمّ يتطرّق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اُخرى حيث يقول: (هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم).
الوصف هنا بـ (الأوّل والآخر) تعبير رائع عن أزليّته وأبديّته تعالى، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته، وليس خارجاً عنه حتّى تكون له بداية ونهاية، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.
إنّه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً.
وبناءً على هذا فإنّ التعبير بـ (الأوّل والآخر) ليس له زمان خاصّ أبداً، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معيّنة.
والوصف بـ (الظاهر والباطن) هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية - أي وجود الله - بالنسبة لجميع الموجودات، أي أنّه أظهر من كلّ شيء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كلّ مكان، وهو خفيّ أكثر من كلّ شيء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.
ولقد عبّر بعض المفسّرين عن ذلك بأنّه: الأوّل بلا إبتداء، والآخر بلا إنتهاء، والظاهر بلا إقتراب، والباطن بلا إحتجاب.
وعبّر البعض الآخر عنه تعبيراً رائعاً آخر: الأوّل ببرّه، والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته.
وبإختصار فإنّه محيط بكلّ شيء، وإنّه (بداية ونهاية، وظاهر وباطن) عالم الوجود.
وفسّر بعض المفسّرين (الظاهر) هنا بمعنى "الغالب" (من الظهور بمعنى الغلبة) ونلاحظ في بعض خطب نهج البلاغة قرينة على هذا المعنى حيث يقول (ع) حول خلق الأرض: "هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته"(4).
ولا مانع من جمع هذين التّفسيرين.
وعلى كلّ حال فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدّمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة: (وهو بكلّ شيء عليم) إذ أنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم...سيكون عالماً بكلّ شيء قطعاً.
بحث
جمع الأضداد في صفات الله:
من الواضح أنّ الكثير من الصفات لا يمكن جمعها فينا نحن البشر، وكذا الأمر بالنسبة للموجودات الاُخرى.
فمثلا: من كان في أوّل الصفّ لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في آخره، وكذلك إذا كنت ظاهراً فليس بالمقدور أن تكون في نفس الوقت باطناً والعكس صحيح أيضاً.
والسبب في ذلك هو محدودية وجودنا، فالوجود المحدود لا يستطيع أن يكون غير ذلك، إلاّ أنّ الحديث عندما يكون عن صفات الله فسيتغيّر الأمر، حيث يمكن الجمع في هذه الحالة بين الظاهر والباطن، وبين البداية والنهاية، وذلك لطبيعة صفات الذات الإلهيّة المقدّسة اللا متناهية، ولذلك فلا عجب هنا.
وقد وردت أحاديث عن رسول الله (ص) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فيها توضيحات رائعة تساعد على تفسير هذه الآيات ذات المحتوى العميق، ومن جملتها ما ورد في صحيح مسلم عن الرّسول الأكرم (ص) أنّه قال: "اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"(5).
ويقول أمير المؤمنين (ع): "ليس لأوّليّته إبتداء، ولا لأزليّته إنقضاء، هو الأوّل لم يزل، والباقي بلا أجل...الظاهر لا يقال ممّ؟ والباطن لا يقال فيم؟"(6).
ويقول الإمام المجتبى (ع) في خطبة له: "الحمد لله الذي لم يكن فيه أوّل معلوم، ولا آخر متناه...فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفِكَرُ وخطراتها.
ولا الألباب وأذهانها صفته، فتقول متى ولا بدع ممّا؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن فيما؟"(7).
1- إنجيل يوحنا، باب17، جملة7.
2- نفس المصدر إضافة إلى الدرّ المنثور ج6، ص17.
3- مجمع البيان بداية سورة الحديد.
4- اُصول الكافي طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج5، ص231.
5- "التسبيح" في الأصل من مادّة (سبح) على وزن (مسح) بمعنى الحركة السريعة في الماء والهواء. والتسبيح أيضاً هو الحركة السريعة في مسير عبادة الله عزّوجلّ (الراغب في المفردات).
6- بالرغم من أنّ (سبّح) فعل متعدٍّ بدون حرف جرّ حيث يقال مثلا سبّحوه إلاّ أنّه هنا قد عدي باللام، ومن المحتمل أن يكون ذلك للتأكيد.
7- نهج البلاغة، خطبة 186.