الآيات 15-20 من سورة نوح
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾
المعنى:
يقول الله تعالى مخاطبا لخلقه المكلفين، ومنبها لهم على توحيده وإخلاص عبادته (ألم تروا) ومعناه ألم تعلموا (كيف خلق الله سبع سماوات) أي اخترع سبع سماوات (طباقا) أي واحدة فوق الأخرى فالطباق مصدر طابقت مطابقة وطباقا والطباق منزلة فوق منزلة. ونصب (طباقا) على أحد وجهين:
أحدهما: على الفعل وتقديره وجعلهن طباقا.
الآخر: جعله نعتا ل? (سبع). وجعل (القمر فيهن نورا) روي أن الشمس يضئ ظهرها لما يليها من السماوات، ويضئ وجهها لأهل الأرض، وكذلك القمر. والمعنى وجعل الشمس والقمر نورا في السماوات والأرض. وقال قوم: معنى (فيهن) معهن، وحروف الصفات بعضها يقوم مقام بعض. وقال قوم: معناه في حيزهن، وإن كان في واحدة منها، كما يقول القائل: إن في هذه الدور لبئرا وإن كان في واحدة منها، وكذلك يقولون: هذا المسجد في سبع قبائل وإن كان في إحداها. والجعل حصول الشئ على المضي بقادر عليه. وقد يكون ذلك بحدوث نفسه. وقد يكون بحدوث غيره له. والجعل على أربعة أوجه:
أولها: أحداث النفس، كجعل البناء والنساجة وغير ذلك.
الثاني: بقلبه، كجعل الطين خزفا.
الثالث: بالحكم كجعله كافرا أو مؤمنا
والرابع: بالدعاء إلى الفعل كجعله صادقا وداعيا. والنور جسم شعاعي فيه ضياء كنور الشمس، ونور القمر، ونور النار، ونور النجوم، وشبه بذلك نور الهدى إلى الحق، فالله تعالى جعل القمر ضياء في السماوات السبع - في قول عبد الله بن عمر - وقيل: جعله نورا في ناحيتهن (وجعل الشمس سراجا) فالسراج جسم يركبه النور للاستصباح به، فلما كانت الشمس قد جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجا، وهي سراج العالم كما أن المصباح سراج هذا الانسان. وقوله (والله أنبتكم من الأرض نباتا) فالانبات إخراج النبات من الأرض حالا بعد حال. والنبات هو الخارج بالنمو حالا بعد حال، والتقدير في (أنبتكم نباتا) أي فنبتم نباتا، لان أنبت يدل على نبت، من جهة انه متضمن به. وقوله (ثم يعيدكم فيها) فالإعادة النشأة الثانية، فالقادر على النشأة الأولى قادر على الثانية، لأنه باق قادر على اختراعه من غير سبب يولده، والمعنى إن الله يردكم في الأرض بأن يميتكم فتصيروا ترابا كما كنتم أول مرة (ويخرجكم اخراجا) منها يوم القيامة كما قال (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) (1) ثم قال (والله جعل لكم الأرض بساطا) أي مبسوطة يمكنكم المشي عليها والاستقرار فيها. وبين أنه إنما جعلها، كذلك (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) فالفجاج جمع (فج) وهي الطريقة المتسعة المتفرقة، وقيل: طرقا مختلفة - ذكره ابن عباس - والفج المسلك بين جبلين، ومنه الفج الذي لم يستحكم أمره، كالطريق بين جبلين. وإنما عدد تعالى هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة الخالصة من كل شرك، ودلالة لهم على أنه عالم بمصالح خلقه، ومدبر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن يشكروه على هذه النعمة ولا يقابلونها بالكفر والجحود.
1- سورة 20 طه آية 55.