الآيات 4 - 8
﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاَْنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَلِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْء نُّكُر (6) خُشَّعاً أَبْصَرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاَْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7)مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَـفِرُونَ هَـذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)﴾
التّفسير
يوم البعث والنشور:
تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسول (ص) ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.
والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.
يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب إنزجارهم عن القبائح والذنوب: (ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر) وذلك ليلقي عليهم الحجّة.
وبناءً على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين، وما يوجد من نقصان أو خلل يكمن فيهم، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.
والقصد من "الأنباء" الإخبار عن الاُمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.
ويضيف تعالى: (حكمة بالغة فما تغن النذر) فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة، إلاّ أنّها لا تفيد أهل العناد(1) (2).
تبيّن هذه الآية أن لا نقص في "فاعلية الفاعل"، أو تبليغ الرسل.
لكن الأمر يكمن في مدى إستعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة، وإلاّ فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الاُمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة ... كلّ هذه الاُمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.
الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على إستعداد لقبول الحقّ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف، وهو الدعوة إلى الحساب، حيث يقول سبحانه: (فتولّ عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر)(3).
وعلى هذا تكون عبارة: (يوم يدع الداع) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة: (فتولّ عنهم).
لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للاُخرى، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى: (فتولّ عنهم) جاءت بصيغة الأمر للرسول (ص)بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عندما يدعوهم الداعي الإلهي للحساب.
وهذا الرأي مستبعد جدّاً.
وهنا يثار السؤال التالي: هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عندما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟
ذكر المفسّرون إحتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده)،(4) يرجّح الرأي الأوّل.
رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.
أمّا المراد من (شيء نكر)(5) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوماً من حيث وقته قبل قيام الساعة، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم، أو جميع هذه الاُمور، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.
وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحاً أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة: (خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنّهم جراد منتشر).
نسبة "الخشوع" هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.
والتشبيه هنا بـ (الجراد المنتشر) لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه، كما هي حركة إنتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والإضطراب خلافاً للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو، مضافاً إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.
نعم، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله تعالى: (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى).(6)
والحقيقة أنّ هذا التشبيه هو ما ورد أيضاً في الآية (7) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث).
وأمّا قوله تعالى: (مهطعين إلى الداع) فإنّ كلمة "مهطعين" تأتي من مادّة (اهطاع) أي مدّ الرقبة، والبعض يرجعها إلى النظر بإنتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.
وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين، لذا يضيف سبحانه معبّراً عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله: (يقول الكافرون هذا يوم عسر).
والحقّ أنّه يوم صعب وعسير.
وهذا ما يؤكّده الباريء عزّوجلّ بقوله: (وكان يوماً على الكافرين عسيراً).(8)
ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.
مسألة
لماذا كان يوم القيامة يوماً عسيراً؟:
ولماذا لا يكون عسيراً؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة، وخاصّة عندما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون: (ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها)،(9) هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها، سواء كانت صالحة أم طالحة: (إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إنّ الله لطيف خبير).(10)
ومن جهة ثالثة، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة، والإعتذار عن التقصير، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اُخرى إلى الحياة يقول تعالى: (واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون).(11)
ونقرأ كذلك في قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نُرد ولا نكذب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين).(12)ولكن هيهات.
ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تُنسيى الاُمّهات أولادها، وتسقط الحوامل أجنّتهن، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد، قال تعالى: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى
الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد).(13)
والدليل على إضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالإفتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم، قال تعالى: (يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه، ومن في الأرض جميعاً ثمّ ينجّيه، كلاّ إنّها لظى).(14)
إذاً، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الاُخرى المهولة التي وردت في آيات اُخرى أن يكون ذلك اليوم يوماً مريحاً وبعيداً عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!
(حفظنا الله جميعاً في ظلّ لطفه ورعايته).
1- (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.
2- الحجّ، 2.
3- الفرقان، 26.
4- الكهف، 49.
5- لقمان، 16.
6- البقرة، 48.
7- الأنعام، 27.
8- الحجّ، 2.
9- المعارج ،11 ـ 15.
10- الشعراء، 116.
11- تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث.
12- (انتصر): طلب العون كما في الآية (41) سورة الشورى، وهنا جاءت بمعنى طلب الإنتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).
13- روح المعاني هامش الآية مورد البحث.
14- "عيوناً": يمكن أن تكون تميّزاً للأرض والتقدير فجّرنا عيون الأرض، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعاً تحوّلت إلى عيون.