الآيات 22 - 28

﴿وَأَمْدَدْنَـهُم بِفَـكِهَة وَلَحْم مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَـزَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَآءَلُونَ(25) قَالُوآ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَـنَا عَذَابَ السَّمُومِ(27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(28)﴾

التّفسير

مواهب اُخرى لأهل الجنّة:

أشارت الآيات المتقدّمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنّة، وتشير الآيات محلّ البحث إلى خمسة اُخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذّة مهيّأ لهم في الجنّة!

فتشير الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنّة فتقول: (وأمددناهم بفاكهة ولحم ممّا يشتهون).

"أمددناهم" مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة .. أي أنّ طعام الجنّة وفواكهها لا ينقص منهما شيء بتناولهما، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير بـ (ممّا يشتهون) يدلّ على أنّ أهل الجنّة أحرار تماماً في إنتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها، فمهما طلبوا فهو مهيء لهم .. وبالطبع فإنّ طعام الجنّة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة، إلاّ أنّهما يمثّلان الطعام المهمّ، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليّتها عليه.

ثمّ تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنّة من شراب سائغ فتقول: (يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم)!

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد، ويشربون شراباً سائغاً عذباً لذيذاً يهب النشاط خالياً من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم، بل كلّه لذّة وإنتباه ونشاط "جسمي وروحاني".

وكلمة "يتنازعون" من مادّة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض، وقد يأتي للمخاصمة والتجاذب، لذلك قال بعض المفسّرين بأنّ أهل الجنّة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ "التنازع" متى أطلق معه لفظ الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو التجاذب! وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أنّ "الكأس" هي الإناء المملوء فإذا كان خالياً لا يطلق عليه كأس(1).

وعلى كلّ حال، فحيث أنّ التعبير بالكأس يُتداعى منه إلى الشراب المخدّر في الدنيا فإنّ الآية تضيف قائلة (لا لغو فيها ولا تأثيم) ولا يصدر على أثرها عمل قبيح كما يعقب الشراب المخدّر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر طهارةً وخلوصاً.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنّة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية: (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون).

و "اللؤلؤ المكنون" هو اللؤلؤ داخل صدفه، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافاً وجميلا أيضاً، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كلّ ذلك يؤثّر فيه، فلا يبقى على حالته الاُولى من الشفّافية! فالغلمان وخدمة الجنّة هم إلى درجة من الصفاء حتّى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه، إلاّ أنّ هذا بنفسه إكرام أو إحترام آخر لأهل الجنّة!

وقد ورد في حديث عن النّبي (ص) حين سئل عن أهل الجنّة فقيل له: يارسول الله إنّ الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قال (ص): والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب(2).

والتعبير بـ (لهم) يدلّ على أنّ كلّ مؤمن له خدمة خاصّون به، وحيث أنّ الجنّة ليست مكاناً للهم والحزن فإنّ الغلمان يلتذّون بخدمتهم المؤمنين!.

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كلّ عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنّا كنّا في أهلنا مشفقين).

فمع أنّنا كنّا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحسّ بالأمان والطمأنينة، إلاّ أنّنا كنّا مشفقين .. مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدّرة لحياتنا وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرّة في أيّة لحظة.

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا!

مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان! ولكن الله منّ علينا برحمته الواسعة: (فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم): أجل: منّ الله الرحيم علينا فنجّانا من سجن الدنيا ووحشتها، وأنعم علينا في دار القرار وجنّات النعيم.

وحين يتذكّرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعّمة! يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر، وستكون تلك النعم ألذّ وأدعى للقلب، لأنّ القيم تتجلّى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنّة هنا يشير إلى إعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون الله برّاً رحيماً يعرفه أهل الجنّة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون: (إنّا كنّا من قبل ندعوه إنّه هو البرّ الرحيم).

إلاّ أنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر ممّا كنّا نعرفها، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئاً وأحسن إلينا مع كلّ تلك الذنوب الكثيرة!.

أجل إنّ عرصة القيامة ونعم الجنّة مدعاة لتجلّي صفات الله وأسمائه، والمؤمنون يتعرّفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر من أي زمن آخر.

حتّى الجحيم أيضاً تبيّن صفاته وحكمته وعدله وقدرته!

ملاحظات

1 - كلمة "يتساءلون" مشتقّة من السؤال، ومعناه الإستفهام، أي يسأل بعضهم بعضاً، وهذا الفعل هنا يشير إلى أنّ أهل الجنّة يسأل بعضهم بعضاً عن ماضيه، لأنّ تذكّر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه المواهب كلّ ذلك بنفسه تلذّذ أيضاً ... وهذا يشبه تماماً "الإنسان" المسافر العائد من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن.

فهو يتحدّث مع من سافر معه عن ما كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.

2 - كلمة "مشفقين" مشتقّة من الإشفاق، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه التوجّه المقرون بالخوف .. فحين يتعدّى هذا اللفظ "الإشفاق" بـ "من" يكون مفهوم الخوف فيها أظهر، وإذا تعدّت بـ "في" يكون مفهوم التوجّه والعناية فيها أكثر!

والأصل أنّ هذه الكلمة مشتقّة من "الشفق" وهو النور المقرون أو الممزوج بشيء من الظلمة.

والآن ينبغي أن يُعرف ممَّ كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شيء كانوا يتوجّهون؟!

وهنا إحتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعاً ..

"الخوف من الله والتوجّه إليه لنجاتهم - والإشفاق من إنحراف أهليهم والإلتفات إلى أمر التربية - والخوف من الأعداء والتوجّه لحفظ أنفسهم في قبالهم" وإن كان المعنى الأوّل - مع ملاحظة الآيات التالية وخاصّة (فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) - أقرب للنظر!

3 - التعبير "في أهلنا" بإطلاقه يحمل مفهوماً واسعاً حيث يصدق على جميع الأبناء والأزواج والأحباب، ويشير هذا التعبير إلى أنّ الإنسان في مثل هذا الجمع يحسّ بالأمن أكثر من أي مكان آخر، فإذا كان فيهم مشفقاً، فمن المعلوم حاله إذا كان في غيرهم!!

ويحتمل أيضاً أنّ هذا التعبير يشير إلى أُولئك المبتلين باُسرة غير مؤمنة، وكانوا خائفين حتّى منهم، إلاّ أنّهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على إستقلالهم بالإتّكال على الله ولطفه ولم يتلوّنوا بلون الاُسرة.

4 - "السموم" يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

وأمّا إطلاق كلمة "السم" على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن!

5 - كلمة "البرّ" في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر، ثمّ إستعملت هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحاً وواسعاً حسناً، وأجدر بهذه الكلمة الذات المقدّسة، لأنّ لطفه وإحسانه عمّ العوالم كلّها.

6 - إرتباط الآيات ومضامينها

قلنا أنّ هذه الآيات والآيات المتقدّمة تذكر أربعة عشر قسماً من نعم أهل الجنّة.

1 ? الجنّات

2 ? النعيم

3 ? السرور

4 - الأمان من عذاب جهنّم

5 - تناول الطعام والشراب السائغ في الجنّة

6 - الإتّكاء على السرر المصفوفة

7 - الأزواج من الحور العين

8 - الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان

9 - أنواع الفواكه اللذيذة

10- أنواع اللحم

11 - ما تشتهي الأنفس

12 - كؤوس الشراب الطهور

13 - ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون

14 - التساؤل عن أيّام الدنيا في مجالس يغمرها الاُنس!.

وهذه النعم بعضها مادّي وبعضها معنوي، ومع كلّ ذلك فإنّ نعم الجنّة الماديّة والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم، بل ما هو مذكور هنا يعدّ جانب من جوانب نعم الجنّة!


1- راجع تفسير المراغي، ج27، ص31.

2- راجع "لسان العرب" و "المفردات للراغب" و "المنجد" و "تفسير القرطبي".