الآيات 16 - 18

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الَْيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)﴾

التّفسير

كتابه جميع الأقوال:

يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه).

كلمة "توسوس" مشتقّة من الوسوسة وهي - كما يراه الراغب في مفرداته - الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة "الوسواس" ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده وأعماله وأقواله، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة (ولقد خلقنا الإنسان) يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة، ولو إنقطع الفيض لحظة لهلكنا، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية "بل كما سنبيّن فإنّ إرتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا - (بنور الشمس)".

أجل، هو الخالق، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان ..

فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال: (واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون).(1)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته، وكوننا في قبضة قدرته، فإنّ تكليفنا واضح، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله ..

فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ ..

ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادق (ع) يوماً فقال: رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلاّ أنّه لم ينههم عن ذلك، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادق (ع) ادعوا لي ولدي موسى فدُعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا: إنّ الذي كنت اُصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عزّوجلّ: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ..

فاحتضنه الإمام الصادق وقال: بأبي أنت واُمّي يامستودع الأسرار(2).

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى "الوريد" ..

فمنهم من يعتقد بأنّ "الوريد" هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان ..

في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب!

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسباً، ولا سيّما إذا لاحظنا الآية 24 من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة "الوريد" - ضمناً - مأخوذة من الورود، ومعناه الذهاب نحو الماء، وحيث أنّ الدم - يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الإصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن "الوريد والشريان" - يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان، وبالعكس - هذا الإصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)(3).

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله "التامّة" على ظاهر الإنسان وباطنه، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله، وهما معه دائماً ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة "تلقّى" معناها الأخذ والتسلّم، و "المتلقّيان" هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة "قعيد" مأخوذة من القعود ومعناها "جالس"(4) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارةً، واُخرى في حال الجلوس، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصدّان أعماله.

ويحتمل أيضاً أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائماً ويسجّلان أعماله، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة "كما في بحار الأنوار ج59 ص186 رقم الرّواية 32".

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيّئات، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإذا إستغفر الله منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعدموت المؤمن: ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني إذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(5).

وفي رواية اُخرى عن النّبي (ص) أنّه قال: "ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلاّ أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدوداً في وثاقي" ثمّ أضاف (ص) من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"(6).

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضاً فتقول: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)(7).

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان، وفي هذه الآية إهتمام بخصوص ألفاظه، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم ..

ويرون أنفسهم أحراراً في الكلام مع أنّ أكثر الاُمور تأثيراً وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناءاً على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة "الرقيب" معناها المراقب و "العتيد" معناها المتهيء للعمل، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئاً أو يدّخره بأنّه عتيد، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الإدّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد إسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما "المتلقيان" فاسم ملك اليمين "رقيب" واسم ملك الشمال "عتيد"، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر، إلاّ أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلاّ أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أنّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ روايةً عن الإمام الصادق يقول فيها: ا"نّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي: ألم يقل الله تعالى (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)

فيجيب الإمام (ع): إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى"(8).

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) إحتراماً وإكراماً له، إلاّ أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية 78 من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة: كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّاً لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّاً أو إقتربنا منها كثيراً فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك: "يامن هو اختفى لفرط نوره"!.

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنين (ع) في خطبته الاُولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه: "مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة".

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيهاً آخر، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الإسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك: حين نقول: توجّه إلى الكعبة، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلاّ تبعاً للمفهوم الإسمي، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة، إذ دون إرتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا ..

وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.


1- كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين، إلاّ أنّ جماعة اُخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلا من الجملتين "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" و "إذ يتلقّى المتلقّيان" إلخ تحتفظ بإستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالاُخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

2- كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفاً وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد" وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

3- المصدر السابق.

4- روح المعاني، ج26، ص165 ذيل الآيات محل البحث، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار، ج59، ص187 في الرّوايتين 34 و35".

5- الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائداً على الذي يلفظ القول، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب.

6- اُصول الكافي طبقاً لما نقل في نور الثقلين، ج5، ص110.

7- السَكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء، والسِكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزاً وسدّاً بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسُكر على زنة الشُكر.

8- روح المعاني، ج9، ص118.