الآيات 71 - 74

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴿71﴾ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿72﴾ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي كِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴿73﴾ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴿74﴾

بيان:

تذكر الآيات إجمال قصة نوح (عليه السلام) ومن بعده من الرسل إلى زمن موسى وهارون (عليهما السلام)، وما عامل به الله سبحانه أممهم المكذبين لرسلهم حيث أهلكهم ونجا رسله والمؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الأمة.

قوله تعالى: ﴿واتل عليهم نبأ نوح﴾ إلى آخر الآية المقام مصدر ميمي واسم زمان ومكان من القيام، والمراد به الأول أو الثالث أي قيامي بأمر الدعوة إلى توحيد الله أو مكانتي ومنزلتي وهي منزلة الرسالة، والإجماع العزم وربما يتعدى بعلى قال الراغب: وأجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوسل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا كيدكم وشركاءكم.

والغمة هي الكربة والشدة وفيه معنى التغطية كان الهم يغطي القلب، ومنه الغمام للغيم سمي به لتغطيته وجه السماء، والقضاء إلى الشيء إتمام أمره بقتل وإفناء ونحو ذلك.

ومعنى الآية: ﴿واتل﴾ يا محمد ﴿عليهم نبأ نوح﴾ وخبره العظيم حيث واجه قومه وهو واحد يتكلم عن نفسه، وهو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدى عليهم بأن يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، وأتم الحجة على مكذبيه في ذلك ﴿إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي﴾ ونهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة ﴿وتذكيري بآيات الله﴾ وهو داعيكم لا محالة إلى قتلي وإيقاع ما تقدرون عليه من الشر بي لإراحة أنفسكم مني ﴿فعلى الله توكلت﴾ قبال ما يهددني من تحرج صدوركم وضيق نفوسكم علي بإرجاع أمري إليه وجعله وكيلا يتصرف في شئوني ومن غير أن أشتغل بالتدبير ﴿فأجمعوا أمركم وشركاءكم﴾ الذين تزعمون أنهم ينصرونكم في الشدائد، واعزموا علي بما بدا لكم، وهذا أمر تعجيزي، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي ﴿ثم اقضوا إلي﴾ بدفعي وقتلي ﴿ولا تنظرون﴾ ولا تمهلوني.

وفي الآية تحديه (عليه السلام) على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، وإظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه وإن أجمعوا عليه وانتصروا بشركائهم وآلهتهم.

قوله تعالى: ﴿فإن توليتم فما سألتكم من أجر﴾ إلى آخر الآية.

تفريع على توكله بربه، وقوله: ﴿فما سألتكم﴾ إلخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبب والتقدير فإن توليتم وأعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لي في ذلك فإني لا أتضرر في إعراضكم شيئا لأني إنما كنت أتضرر بإعراضكم عني لو كنت سألتكم أجرا على ذلك يفوت بالإعراض وما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله.

وقوله: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ أي الذين يسلمون الأمر إليه فيما أراده لهم وعليهم، ولا يستكبرون عن أمره بالتسليم لسائر الأسباب الظاهرة حتى يخضعوا لها ويتوقعوا به إيصال نفع أو دفع شر.

قوله تعالى: ﴿فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف﴾ إلى آخر الآية، الخلائف جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الأرض والباقين من بعدهم يخلفون سلفهم ويقومون مقامهم، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم﴾ إلى آخر الآية، يريد بالرسل من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسى (عليه السلام).

وظاهر السياق أن المراد بالبينات الآيات المعجزة التي اقترحتها الأمم على أنبيائهم بعد مجيئهم ودعوتهم وتكذيبهم لهم فأتوا بها وكان فيها القضاء بينهم وبين أممهم، ويؤيده قوله بعده: ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ إلخ، فإن السابق إلى الذهن أنهم جاءوهم بالآيات البينات لكن الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانيا بما كذبوا به أولا.

ولازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجيء الرسل بتلك الآيات البينات فقد كانت الرسل بثوا دعوتهم فيهم ودعوهم إلى توحيد الله فكذبوا به وبهم ثم اقترحوا عليهم آية معجزة فجاءوهم بها فلم يؤمنوا.

وقد أسلفنا بعض البحث عن هذه الآية في تفسير قوله: ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل﴾ الأعراف: 101 في الجزء الثامن من الكتاب، وبينا هناك أن في الآية إشارة إلى عالم الذر غير أنه لا ينافي إفادتها لما قدمناه من المعنى آنفا فليراجع.

بحث روائي:

في الكافي، عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان مما أحب أن خلقه من طين الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال، فقلت: وأي شيء الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيء وليس بشيء.

ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز وجل: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله﴾ ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعض وأنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: ﴿ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾.

ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب من قبل.

أقول: ورواه في العلل، بإسناده إلى محمد بن إسماعيل عن صالح عن عبد الله وعقبة عنه (عليه السلام)، ورواه العياشي عن الجعفي عنه (عليه السلام).

وفي تفسير العياشي، عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام): خلق الخلق وهم أظلة فأرسل رسوله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن به في الأظلة وجحده من جحده يومئذ فقال: ﴿ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾.

أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذر في تفسير قوله تعالى: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى﴾ الآية.

وأوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الإنساني المادي التدريجي المشوب بالآلام والمصائب والمعاصي والآثام المشهود لنا من طريق الحس.

وهو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الأحكام المادية، وليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير التقدم المستفاد من قوله: ﴿أن يقول له كن فيكون﴾ يس: 82 فإن ﴿كن﴾ و﴿يكون﴾ يحكيان عن مصداق واحد وهو وجود الشيء خارجا لكن هذا الوجود بعينه بوجهه الذي إلى الله متقدم عليه بوجهه الآخر، وهو بوجهه الرباني غير تدريجي ولا زماني ولا غائب عن ربه ولا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الذي تقدم هناك.

والذي أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذي مرت سابقا غير أنها تختص بمزية وهي ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة التأمل في هذا التعبير يتضح المراد أحسن الاتضاح فإن في الأشياء الكونية أمورا هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها وآثار وجودها، ومع ذلك فهي هي وليست هي.

فإنا إذا نظرنا إلى الأشياء وجردنا النظر ومحضناه في كونها صنع الله وفعله المحض غير المنفك منه ولا المنفصل عنه - وهي نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها إلا التسليم لله والخضوع لإرادته والتذلل لكبريائه والتعلق برحمته وأمر ربوبيته والإيمان بوحدانيته وبما أرسل به رسله وأنزله إليهم من دينه.

وهذه الوجودات ظلال - أشياء وليست بأشياء - إذا قيست إلى وجودات الأشياء المادية، وأخذ العالم المادي أصلا مقيسا إليه وهو الذي بنت عليه الآيات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسئولا عنه يوم القيامة.

ولو أخذت جهة الرب تعالى أصلا وقيس إليه هذا العالم المادي بما فيه من الموجودات المادية - وهو أيضا نظر حق - كان هذا العالم هو الظل وكانت جهة الرب تعالى هو الأصل والشخص الذي له الظل كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ القصص: 88، وقوله: ﴿كل من عليها فان ويبقى وجه ربك﴾ الرحمن27.

وأما ما رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ قال: بعث الله الرسل إلى الخلق وهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، ومن كذب حينئذ كذب بعد ذلك.

فظاهره أن للبعث تعلقا بالنطف التي في الأصلاب والأرحام.

وهم أحياء عقلاء مكلفون، وهذا مما يدفعه الضرورة كما تقدم في الكلام على آية الذر اللهم إلا أن يحمل على أن المراد كون عالم الذر محيطا بهذا العالم المادي التدريجي الزماني من جهة كونه غير زماني فلا يتعلق الوجود الذري بزمان دون زمان وهو مع ذلك محمل بعيد.