الآيتان 20 - 21
﴿وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً (21)﴾
التّفسير
من بركات صلح الحديبيّة مرّةً أخرى!
تتحدّث هاتان الآيتان كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبيّة والوقائع التالية لها - عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق.
فتقول الآية الأولى منهما: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه).
ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها الله للمسلمين سواءً في أمد قصير أم بعيد حتى أنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أنّ المغانم التي تقع في أيدي المسلمين إلى يوم القيامة داخلة في هذه العبارة أيضاً.
أمّا قوله: (فعجّل لكم هذه) فيرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد منه مغانم خيبر التي توفّرت خلال أمد قصير جداً بعد حادثة الحديبيّة!
غير أنّ البعض يرى أنّ كلمة "هذه" إشارة إلى فتح الحديبيّة الذي يُعدّ أكبر غنيمة معنوية!.
ثمّ يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمين - في هذه الحادثة - فيقول: (وكفّ أيدي الناس عنكم).
وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدو - في مأمن منه وأن يلقي الله رعباً ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم!.
ويرى جماعة من المفسّرين أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما جرى في خيبر إذ كانت بعض القبائل من "بني أسد" و"بني غطفان" قد صمّموا أن يهجموا على المدينة في غياب المسلمين وأن ينهبوا أموالهم ويأسروا نساءهم!
أو أنّها إشارة إلى تصميم جماعة من هاتين القبيلتين على أن ينهضوا لنصرة يهود خيبر فألقى الله الرعب في قلوبهم فصرفهم عن ذلك.
غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب ظاهراً! لأنّنا نشاهد شرطاً لهذا التعبير بعد بضعة آيات ورد في شأن أهل مكّة كما جاء في الآية محل البحث، وهو منسجم مع أسلوب القرآن الذي هو أسلوب إجمال وتفصيل!
المهم أنّه طبقاً للرّوايات المشهورة فإنّ سورة الفتح جميعها نزلت بعد حادثة الحديبية وخلال عودة النّبي (ص) من مكّة إلى المدينة!
ثمّ يضيف القرآن في تكملة الآية مشيراً إلى نعمتين كُبريين أُخريين من مواهب الله ونعمه إذ يقول: (ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً).
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ الضمير في لتكون عائد على الغنائم الكثيرة الموعودة، وبعضهم يراه عائداً على حماية المسلمين وكف أيدي الناس عنهم، غير أنّ المناسب أن يعود الضمير إلى جميع حوادث الحديبية ومجرياتها بعد ذلك... لأنّ كلاًّ منها آية من آيات الله ودليل على صدق النّبي (ص) ووسيلة لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وكان في قسم منها (جنبة) أخبار بالمغيّبات، وكان بعضها لا ينسجم مع الظروف العادية، وهي في المجموع تعدّ معجزة واضحة من معاجز النّبي (ص).
وفي الآية التالية أعطى الله بشارةً أُخرى للمسلمين إذ قال: (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كلّ شيء قديراً).
وهناك كلام بين المفسّرين في أنّ هذا الوعد يشير إلى أية غنيمة؟ والى أي نصر؟!
يرى بعضهم أنّه إشارة إلى فتح مكّة وغنائم حنين.
ويرى آخرون أنّه إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النّبي (كفتح فارس والروم ومصر) كما يحتمل أيضاً أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره (1).
عبارة (لم تقدروا عليها) إشارة إلى أنّ المسلمين لم يحتملوا قبل ذلك أن يظفروا بمثل هذه الفتوحات والغنائم، إلاّ أنّه وببركة الإسلام والإمدادات الإلهية نالوا هذه القدرة والقوّة!
واستنبط بعض المفسّرين من هذه الجملة أنّ المسلمين كانوا يتحدّثون عن مثل هذه الفتوحات، إلاّ أنّهم كانوا يرون أنفسهم غير قادرين وخاصّة أنّنا نقرأ في قصة الأحزاب يوم بشّر النّبي (ص) المسلمين بفتح بلاد فارس والروم واليمن اتخذ المنافقون كلامه هزواً!
وجملة (قد أحاط الله بها) إشارة إلى إحاطة قدرة الله على هذه الغنائم أو الفتوحات، ويرى بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى إحاطة علمه، غير أنّ المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع تعابير الآية الأُخرى، وبالطبع لا مانع في الجمع بينهماع
وأخيراً فإنّ آخر جملة في الآية (وكان الله على كلّ شيء قديراً) هي في الحقيقة بمنزلة بيان العلة للجملة السابقة، وهي إشارة إلى أنّه مع قدرة الله على كلّ شيء فلا عجب أن ينال المسلمون مثل هذه الفتوحات!.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء!
ملاحظة
قصة غزوة خيبر:
لمّا عاد النّبي (ص) من الحديبيّة نحو المدينة أمضى شهر ذي الحجة كلّه وأياماً من شهر محرم الحرام من السنة السابعة للهجرة في المدينة، ثمّ تحرّك بألف وأربعمائة نفر من المسلمين الذين كانوا حضروا الحديبيّة نحو "خيبر" (حيث كان مركزاً للتحرّكات المناوئة للإسلام وكان النّبي (ص) يتحيّن الفرص لتدمير ذلك المركز للفساد).
وقد صمّمت قبيلة غطفان في البداية أن تحمي يهود خيبر غير أنّها خافت بعدئذ عواقب أمرها (فاجتنبت حمايتها لهم).
فلمّا وصل النّبي (ص) قريباً من قلاع خيبر أمر أصحابه أن يقفوا ثمّ رفع رأسه الشريف للسماء ودعا بهذا الدعاء:
"اللّهمَّ ربّ السماوات وما أظللن وربّ الأرضين وما أقللن، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها".
ثمّ قال (ص): "أقدموا بسم الله"، وهكذا وصلوا خيبر ليلاً وعند الصباح - حيث علم أهل خيبر بالخبر - وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل جنود الإسلام، ثمّ فتح النّبي (ص) القلاع قلعة بعد اُخرى حتى بلغ أقوى القلاع وأمنعها وآخرها وكان فيها "مرحب" قائد اليهود المعروف.
وفي هذه الأيّام أصاب رأس النّبي (ص) وجع شديد كان ينتابه أحياناً حتى أنّه لم يستطع الخروج من خيمته - يوماً أو يومين... وفي هذه الأثناء وطبقاً لما ورد في التاريخ الإسلامي، حمل أبو بكر الراية في يده وتوجّه بالمسلمين نحو معسكر اليهود غير أنّه سرعان ما عاد وهو صفر اليدين دون نتيجة، ومرّة أُخرى أخذ عمر الراية وحمل بالمسلمين بصورة أشد فما أسرع ما عاد دون جدوى... فلمّا بلغ الخبر مسمع النّبي (ص) قال: "والله لأعطينها غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يأخذها عنوة!".
فاشرأبت الأعناق من كلّ جانب تُرى من هو المقصود، وقد حدس جماعة منهم أنّ مقصوده (علي) (ع)، إلاّ أنّ علياً كان مصاباً بوجع في عينه فلم يكن حاضراً حينئذ، ولمّا كان الغد أمر النّبي بأن يدعو له علياً، فجاء راكباً على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله (ص)، وهو أرمد قد عصّب عينيه.
فقال رسول الله (ص): ما لك؟
قال علي (ع): رمدت بعدك.
فقال له: أدنُ مني، فدنا منه، فتفل في عينيه، فما شكا وجعاً حتى مضى بسبيله.
ثمّ أعطاه الراية.
فتوجّه علي (ع) بجيش الإسلام نحو القلعة الكبرى (من خيبر) فرآه رجل يهودي من أعلى الجدار فسأله من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب.
فنادى اليهودي: أيّتها الجماعة حان اندحاركم، فجاء "مرحب" آمر الحصن ونازل علياً فما كان إلاّ أن هوى إلى الأرض صريعاً بضربة علي (ع)، فالتحمت الحرب بين المسلمين واليهود بشدّة فاقترب علي (ع) من باب الحصن فقَلعه فدحاه فرماه بقوّة خارقة إلى مكان آخر، وهكذا فُتحت القلعة ودخلها المسلمون فاتحين.
واستسلم اليهود وطلبوا من النّبي أن يحقن دماءهم لاستسلامهم، فقبل النّبي (ص) وغنم الجيش الإسلامي الغنائم المنقولة، وأودع النّبي (ص) الأرض والأشجار بأيدي اليهود على أن يعطوا المسلمين نصف حاصلها (2).
1- أخرى: هنا صفة لمحذوف تقدير (ومغانم أُخرى لم تقدروا عليها) وهي منصوبة لعطفها على (وعدكم الله مغانم كثيرة)..
2- نقلاً بتلخيص عن.