الآيات 15 - 17

﴿سَيَقُولُ الْمُـخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَـمَ اللهِ قُل لَن تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاَْعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْم أُولِى بَأْس شَدِيد تُقَـتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الاَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاَْعرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَمَن يَتَوَلَّ يعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17)﴾

التّفسير

المخلّفون الانتهازيّون:

يعتقد أغلب المفسّرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى "فتح خيبر" الذي كان في بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبيّة! وتوضيح ذلك أنّه طبقاً للرّوايات حين كان النّبي (ص) يعود من الحديبيّة بشّر المسلمين المشتركين بالحديبيّة - بأمر الله - بفتح خيبر، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبيّة من المسلمين فحسب، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شيء أبداً.

إلاّ أنّ عبيد الدنيا الجبناء لمّا فهموا من القرائن أنّ النّبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعاً - وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام - أفادوا من الفرصة، فجاؤوا إلى النّبي (ص) وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر، وربّما توسّلوا بهذا العذر، وهو أنّهم يريدون التكفير عن خطئهم السابق والتوبة من الذنب وأن يتحمّلوا عبءَ المسؤولية، والخدمة الخالصة للإسلام والقرآن ويريدون الجهاد مع رسول الله في هذا الميدان، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفاً وأنّها كشفت حقيقتهم من قبلُ كما نقرأ ذلك في الآية الأُولى من الآيات محل البحث ـ: (سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم...).

ولا نجد ذلك في هذا المورد فحسب، بل في موارد كثيرة نجد هؤلاء الطامعين يركضون وراء اللقمة الدسمة التي لا تقترن بألم.

ويهربون من المواطن الخطيرة وساحات القتال كما نقرأ ذلك في الآية (42) من سورة التوبة: (لو كان عرضاً قريباً و سفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقّة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم).

وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم يقول رداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفُرص (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ثمّ يضيف قائلاً للنبي: (قل لن تتبعونا).

وليس هذا هو كلامي بل (كذلكم قال الله من قبل) وأخبرنا عن مستقبلكم أيضاً.

إنّ أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصّة بأهل الحديبيّة ولن يشاركهم في ذلك أحد.

لكنّ هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبيّ ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك: (فسيقولون بل تحسدوننا).

وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النّبي (ص) ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول: (بل كانوا لا يفقهون إلاّ قليلاً).

أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم، فالجهل ملازم لهم أبداً، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النّبي (ص) وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها، فهي زائلة لا محالة!.

صحيح أنّهم أذكياء في المسائل المادية والمنافع الشخصية، ولكن أي جهل أعظم من أن يبيع الإنسان جميع كيانه وكلّ شيء منه بالثروة!

وأخيراً وطبقاً لما نقلته التواريخ فإنّ النّبي الأكرم وزّع غنائم خيبر على أهل الحديبيّة فحسب، حتى الذين لم يشتركوا في خيبر وكانوا في الحديبيّة جعل لهم النّبي سهماً من غنائم خيبر، وبالطبع لم يكن لهذا المورد أكثر من مصداق واحد وهو "جابر بن عبد الله الأنصاري" (1).

واستكمالاً لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبيّة اقتراحاً وتفتح عليهم باب العودة فتقول: (قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلّمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم عذاباً أليماً).

فمتى ما ندمتم عن أعمالكم وسيرتكم السابقة ورفعتم اليد عن عبادة الدنيا وطلب الراحة، فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تُسهموا فيها مرّةً أخرى، وإلاّ فإنّ إجتناب الميادين الصعبة، والمساهمة في الغنائم وميادين الراحة غير مقبول بأي وجه ودليل على نفاقكم أو ضعف إيمانكم وجبنكم.

الطريف هنا أنّ القرآن كرر التعبير بالمخلّفين في آياته، وبدلاً من الاستفادة من الضمير فقد عوّل على الاسم الظاهر.

وهذا التعبير خاصةً جاء بصيغة اسم المفعول "المخلَّفين" أي المتروكين وراء الظهر، وهو إشارة إلى أنّ المسلمين المؤمنين حين كانوا يشاهدون ضعف هؤلاء وتذرعهم بالحيل كانوا يخلّفونهم وراء ظهورهم ولا يعتنون أو يكترثون بكلامهم! ويسرعون إلى ميادين الجهاد!.

ولكنّ من هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم بـ "أولي بأس شديد" في الآية وأي جماعة هم؟! هناك كلام بين المفسّرين...

وجملة (تقاتلونهم أو يسلمون) تدلُّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، لأنّ أهل الكتاب لا يُجبرون على قبول الإسلام، بل يُخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمّة.

وإنّما الذين لا يُقبل منهم إلاّ الإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام ديناً ويرى انّه لابدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.

ومع الإلتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمّة في عصر النّبي بعد حادثة الحديبيّة مع المشركين سوى فتح مكّة وغزوة حنين، فيمكن أن تكون الآية المتقدّمة إشارة إلى ذلك وخاصّة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من "هوازن" و"بني سعد".

وما يراه بعض المفسّرين من احتمال أنّ الآية تشير إلى غزوة (مؤتة) التي حدثت مع أهل الروم فهذا بعيد، لأنّ أهل الروم كانوا كتابيين.

واحتمال أنّ المراد منها الغزوات التي حدثت بعد النّبي ومن جملتها غزوة فارس واليمامة، فهذا أبعد بكثير، لأنّ لحن الآيات مشعر بأنّ الحرب ستقع في زمان النبيّ ولا يلزمنا أبداً أن نطبّق ذلك على الحروب التي حدثت بعده، ويظهر أنّ للدوافع السياسية أثراً في بعض الأفكار المفسّرين في هذه القضية!.

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمّل وهي أنّ النّبي (ص) لا يَعِدُهم بالقول أنّهم سيغنمون في الحروب والمعارك المقبلة، لأنّ الهدف من الجهاد ليس كسب الغنائم بل المعوّل عليه هو ثواب الله العظيم وهو عادةً إنّما يكون في الدار الآخرة!

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أنّ الآية (83: من سورة التوبة تردّ ردّاً قاطعاً على هؤلاء المخلّفين فتقول: (فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً إنّكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا مع الخالفين).

في حين أنّ الآية محل البحث تدعوهم إلى الجهاد والقتال في ميدان صعب (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد).

فما وجه ذلك؟

ولكن مع الإلتفات إلى الآية (83) في سورة التوبة تتعلق بالمخلّفين في معركة تبوك الذين قطع النّبي الأمل منهم، أمّا الآية محل البحث فتتحدّث عن المخلّفين عن الحديبيّة، وما يزال النّبي يأمل فيهم المشاركة، فيتّضح الجواب على هذا الاشكال!.

وحيث أنّ من بين المخلّفين ذوي أعذار لنقص عضوي في أبدانهم أو لمرض وما إلى ذلك فلم يقدروا على الإشتراك في الجهاد، ولا ينبغي أن نُجحد حقهم، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصّة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النّبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها "يعذّبكم عذاباً أليماً"، فقالوا: يا رسول الله ما هي مسؤوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).

وليس الجهاد وحده مشروطاً بالقدرة، فجميع التكاليف الإلهيّة هي سلسلة من الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة، وكثيراً ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى وفي الآية (286) من سورة البقرة نقرأ تعبيراً كلياً عن هذا الأصل وهو: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها).

وهذا الشرط ثابت بالأدلة النقلية والعقليّة!.

وبالطبع فإن هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد، إلاّ أنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية كما نقرأ ذلك في الآية (91) من سورة التوبة: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله).

أي أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يؤدّوا عملاً بأيديهم، فلا ينبغي أن يألوا جهداً فيما يقدرون عليه ولا يعتذروا بألسنتهم عنه، وهذا التعبير الطريف يدلّ على أنّه لا ينبغي الاغماض عن القدرات أبداً، وبتعبير آخر أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يشاركوا في الجبهة فعلى الأقل عليهم أن يُحكموا المواضع الخلفية للجبهة!

ولعلّ الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضاً إلى هذا المعنى فتقول: (ومن يطع الله ورسوله يُدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار ومن يتولّ يعذّبه عذاباً أليماً).

وهذا الاحتمال وارد أيضاً، وهو أنّ بعض الأفراد في المواقع الاستثنائية يعتذرون عن المساهمة (ويسيئون فهم النص) فالقرآن هنا يحذّرهم أنّهم إذا لم يكونوا معذورين واقعاً فإنّ الله أعدّ لهم عذاباً أليماً.

ومن نافلة القول أنّ كون المريض والأعمى والأعرج معذورين خاص بالجهاد، أمّا في الدفاع عن حمى الإسلام والبلد الإسلامي والنفس فيجب أن يدافع كلٌّ بما وسعه، ولا استثناء في هذا المجال!


1- سيرة ابن هشام، الجزء 3، الصفحة 364.