الآيات 8 - 10
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَـكَ شَـهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَـهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)﴾
التّفسير
مكانة النّبي وواجب الناس تجاهه!
قلنا إنّ بعض الجهلاء اعترضوا بشدّة على صلح الحديبيّة وحتى أنّ بعض تعبيراتهم لم تخل من عدم الإحترام بالنسبة إلى النّبي (ص) وكان مجموع هذه الأُمور يستوجب أن يؤكّد القرآن مرّةً أُخرى على عظمة النّبي (ص) وجلالة قدره!.
لذلك فإنّ الآية الأولى من الآيات أعلاه تخاطب النّبي فتقول: (إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً).
وهذه ثلاثة أوصاف بارزة هي من أهم ما يتمتّع به النّبي من صفات ومقام.
كونه "شاهداً" و"مبشّراً"، و"نذيراً".
"شاهداً" على جميع الأمّة الإسلامية، بل هو شاهد على جميع الأمم كما نقرأ هذا التعبير في الآية (41) من سورة النساء (فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
ونقرأ في الآية (5) من سورة التوبة قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
وأساساً فإنّ لكلّ إنسان شهوداً كثيرين!.
أولهم اللّه الذي هو عالم الغيب والشهادة المطّلع على جميع أعماله ونيّاته!.
ومن بعده الملائكة المأمورون بحفظ أعماله كما ورد التعبير في الآية (21) من سورة (ق) (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).
ثمّ أعضاء بدن الإنسان وحتى جلده شاهد عليه... (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) (1).
وجاء في الآية 21 من سورة فصلت في هذا الصدد أيضاً: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كلّ شيء).
و"الأرض" أيضاً، من زمرة الشهود وكما جاء في سورة الزلزلة (يومئذ تحدّث أخبارها).
وطبقاً لبعض الروايات فإنّ "الزمان" أحد الشهود أيضاً، إذ نقرأ في بعض أحاديث الإمام علي (ع) قوله: "ما من يوم يمرّ على بني آدم إلاّ قال له ذلك اليوم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد فافعل فيّ خيراً واعمل فيّ خيراً، اشهدُ لك يوم القيامة فإنّك لن تراني بعد هذا أبداً" (2)، (3).
ولاشك أنّ شهادة الله وحدها كافية، لكنّ تعدّد الشهود فيه إتمام للحجّة أكثر وله أثر تربويّ - أقوى - في الناس...
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم بيّن هذه الأوصاف الثلاثة وهي الشهادة والبشارة والانذار التي هي من الأوصاف الأساسية للنبي (ص) لتكون مقدمة لما ورد في الآية التي بعدها.
وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمّة - هي في الحقيقة بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفاً: وتشكل أمرين في طاعة الله وتسبيحه وتقديره، وثلاثة أوامر منها في "طاعة" رسوله و"الدفاع عنه" و"تعظيم مقامه"، إذ تقول الآية: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزّروه وتوقّروه وتسبّحوه بكرةً وأصيلاً).
كلمة "تعزّروه" مشتقة من مادة تعزير، وهو في الأصل يعني "المنع" ثمّ توسّعوا فيه فأطلق على كلّ دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب "التعزير" أيضاً.
وكلمة "توقّروه" مشتقة من مادة توقير، وجذورها "الوقر" ومعناها الثِقَل... فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.
وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ الضميرين في "تعزّروه" و"توقّروه" يعودان على شخص النّبي (ص) والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه "وقد اختار هذا التّفسير الشيخ الطوسي في "التبيان" و"الطبرسي" في مجمع البيان وغيرهما أيضاً".
غير أنّ جماعة من المفسّرين (4) ذهبوا إلى أنّ جميع الضمائر في الآية تعود على الله، والمراد بالتعزير والتوقير هنا نصرة دين الله وتعظيمه وتكريمه دينه ودليلهم على هذا التّفسير انسجام جميع الضمائر بعضها مع بعض.
غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ "التعزير" أولاً: معناه في الأصل المنع وذبُّ الأعداء والدفاع عن "الشخص"، ولا يصحّ ذلك في شأن الله إلاّ على سبيل "المجاز" فحسب!
وأهمُ من ذلك هو شأن نزول الآية، إذ أنّها نزلت بعد صلح الحديبية وكان بعضهم يسيءُ التعامل مع النّبي ولا يحترم مقامه الكريم، وقد نزلت الآية لتنبه المسلمين على ما ينبغي عليهم من الوظائف بالنسبة إلى رسول الله (ص).
ثمّ لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية هي بمثابة النتيجة للآية السابقة التي وصفت النّبي بأنّه "شاهدٌ ومبشرٌ ونذير" وهذا الأمر يهيء الأرضية المناسبة للآية التي بعدها.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة "بيعة الرضوان" وقد جاء التفصيل عنها في الآية (18) من السورة ذاتها!
وتوضيح ذلك هو: كما قلناه آنفاً إنّ النّبي (ص) رأى في منامه كما تقول التواريخ أنّه دخل مع أصحابه مكّة، فتوجّه على أثر هذه الرؤيا مع ألف وأربعمائة صحابي إلى مكّة، إلاّ أنّ قريشاً صمّمت على منعه وهو على مقربة من مكّة... فتوقف النّبي (ص) مع أصحابه في منطقة الحديبيّة... وتمّ تبادل المبعوثين بين قريش والنّبي حتى انتهى الأمر إلى معاهدة صلح الحديبيّة!
وفي عملية تبادل السفراء والمبعوثين، أُمر عثمان مرّةً أن يبلغ أهل مكّة - من قِبل النّبي - أنّه لا يريد الحرب ولا القتال وإنّما يريد العمرة فحسب، إلاّ أنّ المشركين من أهل مكّة أوقفوا عثمان مؤقتاً وكان هذا الأمر سبباً أن يشيع بين المسلمين خبر قتل عثمان، ولو كان هذا الموضوع صحيحاً لكان دليلاً على إعلان قريش الحرب ومنازلة النّبي (ص) لذلك فإنّ النّبي قال: "لا نبارح مكاننا "الحديبيّة" حتى نأخذ البيعة من قومنا"، فطلب تجديد البيعة... فاجتمع المسلمون وبايعوا النّبي (ص) تحت شجرة هناك على أن لا يتركوا النبي وراءهم ظِهريّاً وأن يقاتلوا مع النّبي أعداءه ويذبّوا عنه ما دام فيهم طاقة على ذلك.
فبلغ هذا الأمر سمع المشركين ودبّ الرعب فيهم، وهذا ما دعاهم إلى الصلح مع النبي.
ومن هنا سمّيت مبايعة المسلمين نبيّهم تحت الشجرة بيعة الرضوان حيث وردت الإشارة إليها في الآية (18) من السورة ذاتها: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يتحدّث عن مبايعة المسلمين في الآية محلّ البحث فيقول: (إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)!
و"البيعة" معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك "القائد" المبايَع!.
وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم "بعضهم إلى بعض" عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و"المصافحة" فقد أطلقت كلمة "البيعة" على هذه العقود والعهود أيضاً.
وخاصةً أنّهم عند "البيعة" كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.
وعلى هذا يتّضح معنى (يد الله فوق أيديهم)... إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النّبي هي بيعة الله، فكأنّ الله قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النّبي فحسب بل يبايعون الله، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية!.
وبناءً على هذا التّفسير فإنّ من يرى بأنّ معنى هذه الجملة (يد الله فوق أيديهم) هو أنّ قدرة الله فوق قدرتهم أو أنّ نصرة الله أعظم من نصرة الناس وأمثال ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها وإن كان هذا الموضوع بحدِّ ذاته صحيحاً.
ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلاً: (فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً) (5).
كلمة "نكث" مشتقة من "نكْث" ومعناها الفتح والبسط ثمّ استعملت في نقض العهد (6).
والقرآن في هذه الآية يُنذر جميع المبايعين للنبي (ص) أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه الله أجراً عظيماً ومن نَكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال الله ضررُه أبداً... بل إنّه يهدّد وجود المجتمع وكرامته وعظمته ويعرّضه للخطر بنقضه البيعة!.
وقد ورد - في كلام - عن أمير المؤمنين (ع) قوله: "إنّ في النّار لمدينة يقال لها الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟! فقيل له: ما فيها يا أمير المؤمنين؟! قال: فيها أيدي الناكثين" (7).
ومن هنا يتّضح بجلاء قبح نقض البيعة من وجهة نظر الإسلام!! وفي هذا المجال هناك بحوث في "البيعة في الإسلام" وحتى "قبل الإسلام" وكيفية البيعة وأحكامها ستأتي بأذن الله في ذيل الآية (18) من هذه السورة ذاتها!.
1- النور، الآية 24.
2- نور الثقلين، ج5، ص112.
3- مرّ البحث عن الشهود في محكمة القيامة ذيل الآيات 20 - 22 من سورة فصلت.
4- منهم الزمخشري في "الكشاف" والآلوسي في "روح المعاني" و"الفيض الكاشاني" في تفسير الصافي و"العلاّمة الطباطبائي في الميزان".
5- ينبغي الإلتفات إلى أنّ كلمة (عليهُ) في الآية الآنفة جاءت على خلاف ما نعهده، إذ ضُمّ الضمير وهو الهاء هنا، وقد وجّه بعض المفسّرين إلى أنّ هذا أصله "هو" وبعد حذف الواو يأتي مضموناً أحياناً مثل له وعنه ويأتي مكسوراً أحياناً لأنه يلي الياء ككلمة "عليه الله" وحيث أنّ كلمة "عليه" هنا تلاها لفظ الجلالة فقد ضم الضمير في "عليه" ينسجم مع تضخيم اللام في لفظ الجلالة "الله".
6- "النكث" بفتح النون مصدر و"النِكث" بكسر النون اسم مصدر.
7- بحار الأنوار، الجزء 67، الصفحة 186.