الآيات 5 - 7

﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ جَنَّات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَـفِقِينَ وَالْمُنَـفِقَـتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6) وَللهِِ جُنُودُ السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)﴾

التّفسير

نتيجة أُخرى من الفتح المُبين:

نقل جماعة من مفسّري الشيعة وأهل السنّة أنّه حين بشّر النّبي (ص) "بالفتح المبين" و"إتمام النعمة" و"الهداية" و"النصرة"... قال بعض المسلمين ممّن كان مستاءً من صلح الحديبيّة: هنيئاً لك يا رسول الله! لقد بيّن لك الله ماذا يفعل بك! فماذ يفعل بنا فنزلت الآية (ليُدخل المؤمنين والمؤمنات) (1).

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآيات تتحدّث عن علاقة صلح الحديبيّة وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة، وكذلك عاقبة كلّ من الفريقين اللذينِ أُمتحنا في هذه "البوتقة" والمختبر - فتقول الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث (ليُدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).

فلا تُسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبداً... وإضافة إلى ذلك فإنّ الله يعفو عنهم (ويكفّر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً) (2).

وبهذا فإنّ الله قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عُظُمَييْن هما "الجنّة خالدين فيها" و"التكفيرُ عن سيّئاتهم" بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك الذين خرجوا من الامتحان بنجاح وسلامة!.

وكلمة "الفوز" التي توصف في القرآن غالباً بـ "العظيم" وأحياناً توصف بـ"المبين" أو "الكبير" بناءً على ما يقول "الراغب" في "مفرداته" معناها الانتصار ونيل الخيرات المقرون بالسلامة، وذلك في صورة ما لو كان فيه النجاة في الآخرة وإن اقترن مع زوال بعض المواهب الدنيوية.

وطبقاً للرواية المعروفة عن أمير المؤمنين علي (ع) حين ضربه اللعين عبد الرحمن بن ملجم في محراب العبادة بالسيف على أمّ رأسه قال هاتفاً "فزت وربِّ الكعبة" وكأنّه يقول فزت بأنّي أمضيت خَتم صحيفتي بدم رأسي.

أجلْ قد تبلغ الامتحانات الإلهية درجةً أن تضعضع الإيمان الضعيف وتغيّر القلوب، وإنّما يثبت المؤمنين الصادقون الذين تحلّوا بالسكينة والإطمئنان وسينعمون في يوم القيامة بنتائجه، وذلك هو الفوز العظيم حقّاً!.

غير أنّ إزاء هذه الجماعة، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدّث الآية التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول: (ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظنّ السوء).

أجلْ، لقد ظنّ المنافقون حين تحرّك النّبي (ص) ومعه المؤمنون من المدينة أن لا يعودوا نحوها سالمين كما تتحدّث عنهم الآية (12) من هذه السورة ذاتها فتقول: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرّسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً).

كما ظنّ المشركون أيضاً أنّ محمّداً لن يعود إلى المدينة سالماً مع قلّة العَدد والعُدد وسيأفل كوكب الإسلام عاجلاً... ثمّ يفصل القرآن ببيان عذاب هؤلاء وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة:

فَيقول أوّلاً: (عليهم دائرة السوء) (3).

"الدائرة" في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتّفق للإنسان في حياته، فهي أعم من أن تكون حسنةً أو سيئة غير أنّها هنا بقرينة كلمة "السوء" يُراد منها الحوادث غير المطلوبة!.

وثانياً: (وغضب اللّه عليهم).

وثالثاً: (ولعنهم).

ورابعاً وأخيراً: فإنّه بالمرصاد (وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً).

والذي يسترعي الإنتباء أنّه في الحديبيّة كان أغلبُ الحاضرين من المسلمين رجالاً، وفي مقابلهم من المنافقين والمشركين رجالاً أيضاً، غير أنّ الآيات الآنفة أشركت الرجال والنساء في ذلك الفوز العظيم، وهذا العذاب الأليم، وذلك لأنّ الرجال المؤمنين أو المنافقين الذين يقاتلون في "ساحات القتال" لا يحقّقون أهدافهم إلاّ أن تدعمهم النساء بالدعم اللازم.

وأساساً فإنّ الإسلام ليس دين الرجال فحسب فيُهمل شخصيّة المرأة، بل يهتمّ بها، في كلّ موطن يوهم الكلام بالاقتصار على الرجل مع عدم ذكر المرأة فيه يصرّح بذكرها ليُعلَم أنّ الإسلام دين الجميع دون استثناء رجالاً ونساءً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة أُخرى إلى عظمة قدرة الله فتقول الآية: (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزاً حكيماً).

وقد ورد هذا التعبير مرّةً في ذيل مقامات أهل الإيمان ومواهبهم، ومرّةً هنا في ذيل الآية التي تحكي عن عقاب المنافقين والمشركين... ليتّضح أنّ الله الذي له جنود السماوات والأرض جميعاً قادر على الأمرين، فهو قادرٌ أن تشمل رحمته مستحقيها من عباده الصالحين وناصريه، كما أنّه قادر على أن ينزل غضبه وانتقامه ناراً تحرق المجرمين.

وممّا يستلفت النظر أنّ القرآن حين يذكر المؤمنين يصف الله بالعلم والحكمة، وهما يناسبان مقام الرحمة، ولكنّه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف الله بالعزة والحكمة، وهما يناسبان العذاب!

ما المراد من "جنود السماوات والأرض"؟!

هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة "وهي من جنود السماء" كما يشمل جنوداً أُخرَ كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئاً... لأنّ جميع هذه الأشياء هي جنود الله وهي مطيعة لأوامره!.

من هم الظانّون بالله ظنّ السوء؟!

قد يكون سوء الظن تارةً بالنفس، وقد يكون سوء الظن بالآخرين، كما قد يكون بالله، وبهذا التقسيم وعلى منواله يكون "حسن الظن" أيضاً.

أمّا سوء الظن بالنفس إذا لم يبلغ درجة الإفراط فهو سلّم إلى التكامل ويدفع الإنسان إلى التدقيق في أعماله والإخلاص فيها، ويكون حاجزاً عن العجب والغرور منه عند قيامه بالأعمال الصالحة.

وبهذا فإنّ الإمام علياً (ع) يصف المتّقين في جوابه لهمّام قائلاً: "فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زُكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي منّي بنفسي، اللّهمَّ لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل ممّا يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون" (4).

وإذا كان سوء الظن بالناس فهو ممنوع إلاّ أن يغلب الفساد في المجتمع حيث لا ينبغي هناك حسن الظن "وسيأتي بيان هذا الموضوع بإذن الله ذيل الآية 12 من سورة الحجرات".

أمّا سوء الظن بالله أي سوء الظن بوعده أو رحمته وكرمه الذي لا حدَّ له فهو قبيح ومذموم، وقد يدلّ على ضعف الإيمان وربّما دلّ على عدم الإيمان!

ويشير القرآن عدّة مرّات إلى سوء ظنّ ضعافِ الإيمان أو عديمي الإيمان... وخاصةً عند بروز الحوادث الإجتماعية الصعبة وطوفان الإبتلاء والامتحان، وكيف أنّ المؤمنين يبقون ثابتي الأقدام عند هذه الحوادث وهم في كمال حسن الظن والإطمئنان بلطف الله... ولكنّ ضعيفي الإيمان يطلقون لسان الشكوى، كما كان ذلك في قصة الحديبيّة، حيث إنّ المنافقين ومن على شاكلتهم أساءوا الظنّ، وقالوا أنّ محمّداً وأصحابه يمضون في سفرهم هذا ولا يعودون بعده، فكأنّهم نسوا وعود الله أو أنّهم اتهموها.

والنموذج الآخر ما حدث في ساحة يوم الأحزاب حين زلزل المسلمون زلزالاً شديداً ووقعوا تحت التأثير والمحنة الصعبة فهناك ذمّ الله المسيئين الظنّ به فقال: (إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) (5).

وقد عبّرت الآية (154) من سورة آل عمران عن مثل هذه الظنون بـ "ظنّ الجاهلية".

وعلى كلّ حال، فإنّ حسن الظن بالله ورحمته ووعده وكرمه ولطفه وعنايته من علائم الإيمان المهمّة ومن الأسباب المؤثّرة في النجاة والسعادة!.

حتى أنّه ورد في بعض أحاديث الرّسول (ص) قوله: "ليس من عبد يظنّ بالله خيراً إلاّ كان عند ظنّه به" (6).

كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنّه قال: "أحسن بالله الظن فإنّ الله عزَّ وجلَّ يقول أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي إن خير فخير وإن شر فشر" (7).

وأخيراً فقد ورد حديث آخر عن النّبي (ص) يقول فيه: "إنّ حسن الظنّ بالله عزَّ وجلَّ ثمن الجنّة" (8)!.

فأي قيمة أيسر من هذا... وأيُّ متاع أعظم قيمةً منه!؟


1- تفسير المراغي، ج26، ص85 وتفسير أبو الفتوح الرازي، ج10، ص26 وتفسير روح المعاني للآلوسي، 26، ص86.

2- طبقاً لهذا البيان فإنّ جملتي "ليدخل" وكذلك "ويعذّب" اللتين هما في الآية التالية معطوفان على جملة ليغفر، وقد اختار جماعة من المفسّرين هذا الرأي كالشيخ الطوسي في "التبيان" والطبرسي في "مجمع البيان" وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، غير أنّ جماعة آخرين قالوا أنّ ما سبق آنفاً معطوف على جملة ليزدادوا إيماناً وهذا لا ينسجم مع شأن النّزول ولا مجازاة الكفّار.

3- "سَوْء" على زنة "نوع" كما يقول صاحب صحاح اللغة فيه معنى مصدري، والسُوء) على وزن (نُور) اسم مصدر، غير أنّ صاحب الكشّاف يقول أنّ كليهما، بمعنى واحد.

4- نهج البلاغة.

5- الأحزاب، الآيتان 10 - 11.

6- بحار الأنوار، ج70، ص384.

7- بحار الأنوار ج70، ص385.

8- المصدر السابق.