الآيات 32 - 34

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّواْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـلَهُمْ (32) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعمَـلَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (34)﴾

التّفسير

الذين يموتون على الكفر لن يغفر الله لهم:

بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة، تبحث هذه الآيات وضع جماعة أُخرى من الكفار، فتقول: (إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقوا الرّسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضرّوا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم) حتى وإن عملوا خيراً، لأنّه لم يكن مقترناً بالإيمان.

هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكّة، أو الكفار من يهود المدينة، أو كليهما، لأنّ التعبير بـ"الكفر"، و"الصد عن سبيل الله"، و (شاقّوا الرسول) قد ورد بحقّ الفريقين في آيات القرآن الكريم.

أمّا "تبيّن الهدى"، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكّة، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.

و"إحباط أعمالهم" إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.

وعلى أية حال، فقد كان هؤلاء الجماعة متّصفين بثلاث صفات: الكفر، والصد عن سبيل الله، والعداء للنبي (ص)، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه، والأُخرى بعباد الله، والثالثة برسول الله (ص).

وبعد أن تبيّن حال المنافقين، والخطوط العامة لأوضاعهم، وجّهت الآية التالية الخطاب إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم، فقالت: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالهكم).

في الواقع، إنّ أسلوب حياة المؤمنين وبرنامجهم يقع في الطرف المقابل للكفار والمنافقين في كلّ شيء، فهؤلاء يعصون أمر الله سبحانه، وأُولئك يطيعونه، هؤلاء يعادون النبي، وأولئك يطيعون أمرهو هؤلاء تحبط أعمالهم لكفرهم وريائهم ومنّتهم، أمّا أولئك فإنّ أعمالهم محفوظة عند الله سبحانه وسيثابون عليها، لاجتنابهم هذه الأُمور.

وعلى كلّ حال، فإنّ أُسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفراداً كانوا قد قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل، ولذلك فإنّ الله سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.

والشاهد لهذا الكلام سبب النّزول الذي ذكره البعض لهذه الآية، وهو: إنّ "بني أسد" كانوا قد أسلموا وأتوا رسول الله (ص) فقالوا: إنّنا نؤثرك على أنفسنا، ونحن وأهلونا رهن إشارتك وأمرك.

غير أنّ أسلوبهم في الكلام كانت تلوح منه المنّة، فنزلت الآية أعلاه، وحذّرتهم من ذلك.

واستدل بعض الفقهاء بجملة: (ولا تبطلوا أعمالكم) على حرمة قطع الصلاة، ولكنّ الآية مورد البحث وما قبلها وما بعدها شاهدة على أنّها لا تتعلق بهذا الأمر، بل عدم الإبطال عن طريق الشرك والرياء والمن وأمثال ذلك.

وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع، فتقول: (إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ثمّ ماتوا وهم كفّار فلن يغفر الله لهم) لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم، فكيف يغفر الله لهم؟

وبهذا، فقد ورد الحديث في مجموع هذه الآيات عن ثلاث مجموعات: الكفّار، والمنافقون، والمؤمنون، وتحدّدت صفات كلّ منهم ومصيره.

بحث

عوامل إحباط ثواب العمل:

من المسائل الأساسية التي أكدت عليها آيات القرآن المختلفة، ومنها الآية مورد البحث، هي أن يحذر المؤمنون من أن تحبط أعمالهم كالكفار، وبتعبير آخر: فإنّ نفس العمل شيء، والحفاظ عليه شيء أهمّ، فإنّ العمل الصالح السالم المفيد، هو العمل الذي يكون منذ البداية سالماً من العيوب وأن يحافظ عليه من الخلل والعيب حتى نهاية العمر.

والعوامل التي تؤدي إلى إحباط أعمال الإنسان، أو تهددها بذلك الخطر كثيرة، ومن جملتها:

1 - المن والأذى كما يقول القرآن الكريم: (يا أيّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) (1).

فهنا ذكر عاملان لبطلان العمل: أحدهما المنّ والأذى، والآخر الرياء والكفر، فالأوّل يأتي بعد العمل والثّاني قرينه، وهما كالنّار يحرقان الأعمال الصالحة.

2 - العجب عامل آخر في إحباط آثار العمل، كما ورد ذلك في الحديث: "العجب يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب" (2).

3 - الحسد - أيضاً - أحد هذه الأسباب، والذي ورد فيه تعبير شبيه بما ورد في العجب، فقد روي عن الرّسول الأكرم (ص) أنّه قال: "إيّاكم والحسد، فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب" (3).

وكما تذهب الحسنات السيئات (إنّ الحسنات يذهبن السيئات) (4)، فإنّ السيئات تمحو كلّ الحسنات أحياناً.

4 - المحافظة على الإيمان إلى آخر لحظات العمر، وهذا أهم شرط لبقاء آثار العمل، لأنّ القرآن يقول بصراحة: (ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين) (5).

من هنا نعرف أهمية ومشاكل وصعوبات مسألة المحافظة على الأعمال، ولذلك ورد في حديث عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "الإبقاء على العمل أشدّ من العمل"، قال - أي الراوي -: وما الإبقاء على العمل؟ قال: "يصل الرجل بصلة، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً" (6).

وقد أشارت الآية - مورد البحث - إشارة خفية إلى هذه الأُمور حيث تقول: (ولا تبطلوا أعمالكم) (7).


1- البقرة، الآية 264.

2- روح البيان، المجلد 8، صفحة 522.

3- بحار الأنوار، المجلد 73، صفحة 255.

4- هود، الآية 114.

5- الزمر، الآية 65.

6- الكافي، المجلد الثاني، باب الرياء، الحديث 16.

7- لمزيد من الإيضاح والتفصيل حول مسألة إحباط العمل راجع ذيل الآية (217) من سورة البقرة.