الآيات 29 - 31

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَن لَن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَـنَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لاََرَيْنَـكُهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيَمـهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعمَـلَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُـجَـهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـبِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَـرَكُمْ (31)﴾

التّفسير

يعرف المنافقون من لحن قولهم:

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النّبي (ص) والمؤمنين دائماً، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة الكبرى، فتقول أوّلاً: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) (1).

"الأضغان" جمع ضِغْن، وهو الحقد الشديد.

نعم، لقد كانت قلوب هؤلاء مملوءة غيظاً وحقداً شديداً على النّبي (ص) والمؤمنين، وكانوا يتحيّنون الفرص لإنزال الضربة بهم، فهنا يحذّرهم القرآن بأن لا يظنّوا أنّ بإمكانهم أن يخفوا وجههم الحقيقي دائماً، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عندما تنظر ظاهرهم.

ثمّ تضيف: (ولتعرفنّهم في لحن القول) فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم.

يقول الراغب في مفرداته: "اللحن" عبارة عن صرف الكلام عن قواعده وسننه، أو إعرابه على خلاف حاله، أو الكناية بالقول بدلاً من الصراحة.

والمراد في الآية مورد البحث هو المعنى الثّالث، أي: يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.

حينما يكون الكلام عن الجهاد، فإنّهم يسعون إلى إضعاف إرادة الناس ومعنوياتهم، وحينما يكون الكلام عن الحق والعدالة، فإنّهم يحرّفونه بنحو من الأنحاء، وإذا ما أتى الحديث عن الصالحين المتّقين السابقين إلى الإسلام، فإنّهم يسعون إلى تشويه سمعتهم، وتقليل أهميتهم ومكانتهم، ولذلك روي عن "أبي سعيد الخدري" حديثه المعروف الذي يقول فيه: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب، وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب (2).

نعم، لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال، وأول مضح في سبيل الإسلام، ويبغضونه.

إنّ الإنسان لا يستطيع عادةً أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه، ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي (ع): "ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه" (3).

وقد ذكرت آيات القرآن الأُخرى كلمات المنافقين الجارحة، والتي هي مصداق للحن القول هذا، أو حركاتهم المشبوهة، ولعلّه لهذا السبب قال بعض المفسّرين: إنّ النّبي (ص) كان يعرف المنافقين جيداً، من خلال علاماتهم، بعد نزول هذه الآية.

والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبي (ص) أُمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعياً الله له: (ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره) (4).

لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وخاصّةً في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف.

واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الإجتماعية المهمة، وخاصة عند الإضطرابات أو الحروب، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقة في أقوالهم وأفعالهم، وما أروع أن يعي المسلمون أمرهم ويستيقظوا ويستلهموا من هذه الآية تعليماتها ليعرفوا هذه الفئة الحاقدة الخطرة ويفضحوها.

وأخيراً تضيف الآية: (والله يعلم أعمالكم) فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن، ويعلم أعمال المنافقين، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن الله الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم، وخلوتهم واجتماعهم؟

وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقاً أُخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين: (ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.

ومع أنّ لهذا الإبتلاء والإختبار أبعاداً واسعة، ومجالات رحبة تشمل الصبر والثبات في أداء كلّ الواجبات والتكاليف، ولكن المراد منه هنا الإمتحان في ساحة الحرب والقتال لمناسبته كلمة "المجاهدين"، والآيات السابقة واللاحقة، والحق أنّ ميدان الجهاد ساحة اختبار عسير وشديد، وقلّما يستطيع المرء أن يخفي واقعه في أمثال هذه الميادين.

وتقول الآية الأخيرة: (ونبلوا أخباركم).

قال كثير من المفسّرين: إنّ المراد من الأخبار هنا أعمال البشر، وذلك أن عملاً ما إذا صدر من الإنسان، فإنّه سينتشر بين الناس كخبر.

وقال آخرون: إنّ المراد من الأخبار هنا: الأسرار الداخلية، لأنّ أعمال الناس تخبر عن هذه الأسرار.

ويحتمل أن تكون الأخبار هنا بمعنى الأخبار التي يخبر بها الناس عن وضعهم وعهودهم ومواثيقهم، فالمنافقون - مثلاً - كانوا قد عاهدوا النّبي (ص) أن لا يرجعوا عن القتال، في حين أنّهم نقضوا عهدهم: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار) (5).

ونراهم في موضع آخر: (ويستأذن فريق منهم النّبي يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً) (6).

وبهذا فإنّ الله سبحانه يختبر أعمال البشر، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم.

وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ لهاتين الجملتين في الآية مورد البحث معنيين متفاوتين، مع أنّ إحداهما تؤكّد الأُخرى طبقاً للتفاسير السابقة.

وعلى أية حال، فليست هذه المرة الأولى التي يخبر الله سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون، وقد ذكرت مسألة الإمتحان والإبتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالإختبار الإلهي في ذيل الآية (155) من سورة البقرة، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.

ثمّ إنّ جملة (حتى نعلم المجاهدين) لا تعني أنّ الله لا يعلمهم، بل المراد تحقق هذا المعلوم عملياً، وتشخيص هؤلاء المجاهدين، فالمعنى: ليتحقق علم الله سبحانه في الخارج، وتحصل العينية، وتتميز الصفوف.


1- اعتبر البعض (أم) في الآية أعلاه استفهامية، والبعض الآخر اعتبرها منقطعة بمعنى بل، ويبدو أنّ الأوّل هو الأفضل.

2- مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث. ثمّ إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم، ومن جملتهم: أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل، وابن عبد البر في الإستيعاب، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام، وابن الأثير في جامع الاُصول، والعلاّمة الگنجي في كفاية الطالب، ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة، والسيوطي في الدر المنثور، والآلوسي في روح المعاني، وأورده جماعة آخرون في كتبهم، وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلمة عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) لمزيد من الإيضاح يراجع إحقاق الحق، المجلد الثّالث، صفحة 110 وما بعدها.

3- نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 26.

4- التوبة، الآية 84.

5- الأحزاب، الآية 15.

6- الأحزاب، الآية 13.