الآيات 25 - 28

﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـرِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاَْمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَـئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـرَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـلَهُمْ (28)﴾

التّفسير

أفلا يتدبّرون القرآن:

تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة، فتقول: (إنّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم).

وبالرغم من أنّ البعض احتمل أنّ هذه الآية تتحدّث عن جماعة من الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يذكرون علامات النّبي (ص) قبل ظهوره، وذلك استناداً إلى ما ورد في كتبهم السماوية، وكانوا ينتظرونه على أحر من الجمر، إلاّ أنّهم أعرضوا عنه بعد ظهوره واتضاح هذه العلامات وتحقّقها، ومنعتهم شهواتهم ومصالحهم من الإيمان به.

بالرغم من ذلك، فإنّ القرائن الموجودة في الآيات السابقة واللاحقة تبيّن جيداً أنّ هذه الآية تتحدث أيضاً عن المنافقين الذين جاؤوا ورأوا بأمّ أعينهم الدلائل الدالّة على حقانية النّبي (ص)، وسمعوا آياته، إلاّ أنّهم أدبروا اتباعاً لأهوائهم وشهواتهم، وطاعةً لوساوس الشيطان.

"سوّل" من مادة سُؤْل - على وزن قفل ـ، وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان (1)، و"التسويل" بمعنى الترغيب والتشويق إلى الأُمور التي يحرص عليها، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان، وتمنع من هدايته.

وجملة (وأملى لهم) من مادة "إملاء"، وهو زرع طول الأمل فيهم، والآمال البعيدة المدى، والتي تشغل الإنسان، فتصدّه عن الحق والهدى.

وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني، فتقول: (ذلك بأنّهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) وهذا دأب المنافقين في البحث عن العصاة والمخالفين، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كلّ المواقف، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر.

بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة - وهم "بنو النضير" و"بنو قريظة" الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النّبي (ص)، أمّا بعد ظهوره ومبعثه، وتعرّض مصالحهم للخطر، ولحسدهم وكبرهم، فإنّهم اعتبروا الإسلام ديناً باطلاً، وغير سليم - ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النّبي (ص)، وتآمرهم ضد الإسلام، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

وربّما كان تعبير (في بعض الأمر) إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام، وتعتقدون بالبعث والقيامة، ونحن لا نتفق معكم في هذه الأُمور (2).

هذا الكلام شبيه بما جاء في الآية (11) من سورة الحشر: (ألم ترَ إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنّكم).

وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول: (والله يعلم إسرارهم) فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم، وبتآمرهم مع اليهود، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت المناسب.

وعليم بما كان يخفيه اليهود من حسدهم وعدائهم وعنادهم، فقد كانوا يعرفون علامات نبيّ الإسلام (ص) كما يعرفون أبناءهم بشهادة كتابهم، وكانوا يذكرون هذه العلامات للناس من قبل، إلاّ أنّهم أخفوها جميعاً بعد ظهوره، والله عليم بهذا الإخفاء ومحاولة طمس الحق.

وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): أنّ المراد من (كرهوا ما أنزل الله) بنو أُمية الذين كرهوا نزول أمر الله تعالى في ولاية علي (ع) (3).

وواضح أنّ هذا النوع تطبيق وبيان مصداق، وليس حصراً لمعنى الآية.

والآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم، فتقول: (فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) (4).

نعم، إنّ هؤلاء الملائكة مأمورون أن يذيقوا هؤلاء العذاب وهم على أعتاب الموت ليذوقوا وبال الكفر والنفاق والعناد، وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء الله، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات الله ونبيّه.

وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (50) من سورة الأنفال حول الكفار والمنافقين: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق).

وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت، فتقول: (ذلك بأنّهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).

لأنّ رضى الله سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكلّ سعي وجهد، وبناءً على هذا، فمن الطبيعي أن تحبط أعمال أُولئك الذين يصرون على إغضاب الله عزَّ وجلّ وإسخاطه، ويخالفون ما يرتضيه، ويودعون هذه الدنيا وهم خالو الوفاض، قد أثقلتهم أوزارهم، وأرهقتهم ذنوبهم.

إنّ حال هؤلاء القوم يخالف تماماً حال المؤمنين الذين تستقبلهم الملائكة بوجوه ضاحكة عندما يشرفون على الموت، وتبشّرهم بما أعد الله لهم: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولن سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون) (5).

وممّا يلفت النظر أنّ الجملة فعلية في مورد غضب الله تعالى: (ما أسخط الله) وهي أسمية في مورد رضاه: (رضوانه)، وقال بعض المفسّرين: إنّ هذا التفاوت في التعبير يتضمن نكتةً لطيفة، وهي أنّ غضب الله قد يحدث وقد لا يحدث، أمّا رضاه ورحمته فهي مستمرة دائمة.

وواضح أيضاً أنّ غضب الله تعالى وسخطه لا يعني التأثر النفسي، كما أنّ رضاه سبحانه لا يعني انبساط الروح وانشراح الأسارير، بل هما كما ورد في حديث الإمام الصادق (ع): "غضب الله عقابه، ورضاه ثوابه" (6).


1- ولذلك فإنّ البعض قد فسّرها بمعنى الأمل، كما نقرأ ذلك في الآية (36) من سورة طه: (قد أوتيت سؤلك يا موسى).

2- ثمّة احتمالات عديدة أُخرى في تفسير هذه الآية، لا ينسجم أي منها مع الآيات السابقة واللاحقة، ولذلك أعرضنا عن ذكرها.

3- مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 105.

4- كيف، خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فكيف حالهم...

5- النحل، الآية 32.

6- توحيد الصدوق، طبق نقل الميزان، المجلد 18، صفحة 266.