الآيات 20 - 24
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاَْمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـرَهُمْ (23) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا (24)﴾
التّفسير
يخافون حتى من اسم الجهاد!
تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.
تقول الآية الأولى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) سورة يكون فيها أمر بالجهاد، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة الجلاّدين الذين لا منطق لهم... سورة تبعث آياتها نور الهداية في قلوبنا، وتضيء أرواحنا بنورها الوهّاج، هذا حال المؤمنين.
وأمّا المنافقون: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت).
فعند سماع اسم الحرب يصيبهم الهلع، ويضطرب كيانهم أجمع، وتتوقف عقولهم عن التفكير، وتتسمّر عيونهم، وينظرون إليك كمن يوشك على الموت، وهذا أبلغ وأروع تعبير عن حال المنافقين الجبناء الخائفين.
إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله.
إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم، ميدان الشرف والفضيلة، ميدان تفجّر الإستعدادت والقابليات، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان.
إلاّ أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا، وهو أخيراً ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!
والمراد من "السورة المحكمة" - باعتقاد بعض المفسّرين - هي السور التي ذكرت فيها مسألة الجهاد.
لكن لا دليل على هذا التّفسير، بل الظاهر أنّ "المحكم" هنا بمعنى المستحكم والثابت والقاطع، والخالي من أي غموض أو إبهام، حيث يقع المتشابه في مقابلة أحياناً، ولمّا كانت آيات الجهاد تتمتّع عادة بحزم استثنائي، فإنّها تنسجم مع مفهوم هذه اللفظ أكثر، إلاّ أنّها ليست منحصرة فيه.
والتعبير بـ (الذين في قلوبهم مرض) تعبير يستعمل في لسان القرآن في شأن المنافقين عادةً، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد ضعفاء الإيمان لا ينسجم مع سائر آيات القرآن، بل ولا مع الآيات السابقة لهذه الآيات والتي بعدها، التي تتحدّث جميعاً عن المنافقين.
وعلى أية حال، فإنّ الآية تضيف في النهاية جملة قصيرة، فتقول: (فأولى لهم).
إنّ جملة (أولى لهم) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر (1).
وفسّرها البعض بأنّها تعني: الموت أولى لهم، ولا مانع من الجمع بينها كما أوردنا في تفسير الآية.
وتضيف الآية التالية: (طاعة وقول معروف) (2).
إنّ التعبير بـ (قول معروف) يمكن أن يكون في مقابل الكلمات الهزيلة المنكرة التي كان يتفوّه بها المنافقون بعد نزول آيات الجهاد، فقد كانوا يقولون تارةً (لا تنفروا في الحر) (3)، وأخرى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً) (4)، وثالثة كانوا يقولون: (هلمّ إلينا) (5)، من أجل إضعاف المؤمنين وإعاقتهم عن التوجّه إلى ميدان الجهاد.
ولم يكونوا يكتفون بعدم ترغيب الناس في أمر الجهاد، بل كانوا يبذلون قصارى جهودهم من أجل صدّهم عن الجهاد، أو تثبيط معنوياتهم وعزائمهم على الأقل.
ثمّ تضيف الآية: (فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم) وسيرفع رؤوسهم في الدنيا، ويمنحهم العزّة والفخر، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل، والأجر الكبير، والفوز العظيم في الآخرة.
وجملة (عزم الأمر) تشير في الأساس إلى استحكام العمل، إلاّ أنّ المراد منها هنا الجهاد، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.
وتضيف الآية التالية: (فهل عسيتم إن توليّتهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (6) لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتماً، ولم يكن في الجاهلية إلاّ الفساد في الأرض، والإغارة والقتل وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ووأد البنات.
هذا إذا كانت "توليّتم" من مادة "تولّي" بمعنى الإعراض.
غير أنّ كثيراً من المفسّرين احتمل أن تكون من مادة "ولاية"، أي: الحكومة، فيكون المعنى: إنّكم إذا توليّتم زمام السلطة فلا يتوقع منكم إلاّ الضلال والفساد وسفك الدماء وقطيعة الرحم.
وكأنّ جمعاً من المنافقين قد اعتذر من أجل أن يفرّ من ميدان الجهاد بأنّا كيف نطأ ساحة الحرب ونقتل أرحامنا ونسفك دماءهم، وعندها سنكون من المفسدين في الأرض؟
فيجيبهم القرآن قائلاً: ألم تقتلوا أرحامكم وتسفكوا دماءهم، ولم يظهر منكم إلاّ الفساد في الأرض يوم كانت الحكومة بأيديكم؟ إن هذا إلاّ تذرّع وتهرّب، فإنّ الهدف من الحرب في الإسلام هو إخماد نار الفتنة، لا الفساد في الأرض، والهدف اقتلاع جذور الظلم وإزالته من الوجود، لا قطع الرحم.
وقد ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أنّ هذه الآية في بني أُمية الذين لم يرحموا صغيراً ولا كبيراً، بل سفكوا دماء الجميع حتى أقاربهم لمّا تسلّموا زمام الحكم (7).
من المعلوم أنّ بني أمية جميعاً، اتبداءً من أبي سفيان إلى أبنائه وأحفاده، كانوا مصداقاً واضحاً لهذه الآية، وهذا هو المراد من الرواية، إذ أنّ للآية معنى واسعاً يشمل كلّ المنافقين الظالمين والمفسدين.
وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).
إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة، قطيعة للرحم، وفساداً في الأرض، أمّا كلّ الجرائم التي ارتكبوها في الجاهلية، والدماء البريئة التي سفكوها أيّام تسلطهم، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم الله إذ لا أذن واعية لهم، ولا عين ناظرة بصيرة!
ونقرأ في رواية عن الإمام علي بن الحسين، أنّه قال لولده الإمام الباقر (ع): "إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله عزَّوجلّ في ثلاثة مواضع، قال الله عزَّ وجلّ: فهل عسيتم..." (8).
"الرحم" في الأصل محل استقرار الجنين في بطن أمّه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل الأقرباء، لأنّهم نشأوا وولدوا من رحم واحد.
وجاء في حديث آخر عن رسول الله (ص): "ثلاثة لا يدخلون الجنّة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم" (9).
ولا يخفى أنّ لعن الله تعالى لهؤلاء القوم، وطردهم من رحمته، وكذلك سلبهم القدرة على إدراك الحقائق، لا يستلزم الجبر، لأنّ ذلك جزاء أعمالهم، وردّ فعل لسلوكهم وأفعالهم.
وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لإنحراف هؤلاء القوم التعساء، فقالت: (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ؟
نعم، إنّ عامل مسكنة هؤلاء وضياعهم أحد اثنين: إمّا أنّهم لا يتدبّرون في القرآن، برنامج الهداية الإلهية، والوصفة الطبية الشافية تماماً، أو أنّهم يتدبّرونه، إلاّ أنّ قلوبهم مقفلة نتيجة اتباع الهوى والأعمال التي قاموا بها من قبل، وهي مقفلة بشكل لا تنفذ معه أي حقيقة إلى قلوبهم.
وبتعبير آخر، فإنّهم كرجل ضلّ طريقه في الظلمات، فلا سراج في يده، ولا هو يبصر إذ هو أعمى، فلو كان معه سراج، وكان مبصراً، فإنّ الإهتداء إلى الطريق في أي مكان سهل ويسير.
"الأقفال" جمع قفل، وهي في الأصل من مادة القفول أي الرجوع، أو من القفيل، أي الأشياء اليابسة، ولمّا كان المتعارف أنّهم إذا أغلقوا الباب وقفلوها بقفل، فكلّ من يأت يقفل راجعاً، وكذلك لمّا كان القفل شيئاً صلباً لا ينفذ فيه شيء، لذا فقد أطلقت هذه الكلمة على هذه الآلة الخاصة.
بحث
القرآن كتاب فكر وعمل:
تؤكّد آيات القرآن المختلفة على حقيقة أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب، بل إنّ الهدف النهائي منه هو الذكر، والتدبّر في عواقب الأُمور، والإنذار، وإخراج البشر من الظلمات، والشفاء والرحمة والهداية.
فنقرأ في الآية (50) من سورة الأنبياء: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه).
وفي الآية (29) من سورة ص: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبّروا آياته).
وجاء في الآية (19) من سورة الأنعام: (وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ).
وتقول الآية الأولى من سورة إبراهيم: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).
وأخيراً، جاء في الآية (82) من سورة الإسراء: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين).
ولهذا، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين، ويكون في صميمها لا على هامشها، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم، وأن ينفذوا كلّ أوامره، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.
لكنّ، جماعة من المسلمين - مع الأسف الشديد - لا يتعاملون مع القرآن إلاّ على أنّه مجموعة أوراد وأذكار، فهم يتلونه جميعاً تلاوةً مجرّدة، ويهتمون أشدّ الإهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت، وأكثر شقاء المسلمين وتعاستهم يكمن في أنّهم أخرجوا القرآن عن كونه دستوراً جامعاً لحياة البشر، واكتفوا بترديد ألفاظه، وقنعوا بذلك.
والجدير بالإنتباه أنّ الآيات مورد البحث تقول بصراحة: إنّ هؤلاء المنافقين المرضى القلوب لم يتدبّروا في القرآن، فلاقوا هذا المصير الأسود.
"التدبّر" من مادة دَبْر، وهو تحقيق وبحث نتائج الشيء وعواقبه، بعكس "التفكر" الذي يقال غالباً عن علل الشيء وأسبابه، واستعمل كلا التعبيرين في القرآن.
لكن، ينبغي أن لا ننسى أنّ الإستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها، وإن كان القرآن بنفسه معيناً في تهذيبها، لأنّ القلوب إذا كانت مقفلة بأقفال الهوى والشهوة، والكبر والغرور، واللجاجة والتعصّب، فسوف لا يلجها نور الحق، وقد أشارت الآيات - مورد البحث - إلى هذا المعنى.
وما أروع كلام أمير المؤمنين علي (ع) في خطبته حول صفات المتّقين، إذ يقول: "أمّا الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم" (10).
حديث عن الإمام الصادق (ع):
ورد عن الإمام الصادق (ع) في تفسير جملة: (أم على قلوب أقفالها): "إنّ لك قلباً ومسامع، وإنّ الله إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبداً، وهو قول الله عزَّ وجلّ: (أم على قلوب أقفالها) " (11).
1- اعتقد جماعة أنّ معنى الجملة يصبح: يليه مكروه، وهو يعادل معنى ويل لهم.
2- (طاعة) مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل لهم، واعتبرها البعض خبراً لمبتدأ محذوف، وكان التقدير: أمرنا طاعة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.
3- التوبة، الآية 81.
4- الأحزاب، الآية 12.
5- الأحزاب، الآية 18.
6- بالرغم من أنّ القليل من المفسّرين قد بحث في تركيب هذه الآية، لكن يبدو أنّ (إن توليّتم) جملة شرطية وقعت بين اسم "عسى" وخبرها، وجزاء إن الشرطية مجموع جملة (فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض)، والتقدير: إن توليّتم عن كتاب الله فهل يترقب منكم إلاّ الفساد في الأرض؟.
7- راجع: نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 40.
8- أصول الكافي، المجلد 2، باب "من تكره مجالسته"، الحديث 7. أمّا الآيتان اللتان وردتا في بقية الحديث فإحداهما الآية (25) من سورة الرعد، والأُخرى الآية (27) من سورة البقرة، وقد ورد اللعن في إحداهما صريحاً، وفي الأُخرى كناية وتلميحاً.
9- التّفسير الأمثل ذيل الآية (77) من سورة المائدة (نقلاً عن الخصال).
10- نهج البلاغة، الخطبة 193، المعروفة بخطبة همام.
11- نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 41.