الآيات 7 - 11
﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـلَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـلَهُمْ (9) أَفَلَمْ يِسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـفِرِينَ أَمْثَـلُهَا (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَـفِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ (11)﴾
التّفسير
إن تنصروا الله ينصركم:
تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق، وهي ترغّبهم في الجهاد بتعبير رائع بليغ، فتقول: (يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم).
إنّ التأكيد على مسألة "الإيمان" إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.
وعبارة (تنصروا الله) تعني - بوضوح - نصرة دينه، ونصرة نبيّه، وشريعته وتعليماته، ولذلك وردت نصرة الله إلى جانب نصرة رسوله في بعض آيات القرآن الكريم، كما نقرأ في الآية (8) من سورة الحشر: (وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون).
ومع أنّ قدرة الله سبحانه غير محدودة، ولا قيمة لقدرة المخلوقات حيال قدرته، غير أنّه يعبّر بنصرة الله ليوضح أهمية الجهاد والدفاع عن دين الله، ولا يوجد تعبير أعظم من هذا لتبيان أهمية هذا الموضوع.
ولنرَ ما هو هذا الوعد الذي وعد الله به المجاهدين إذا ما دافعوا عن دينه؟
يقول أوّلاً (ينصركم) أمّا كيف يتمّ ذلك؟ فإنّ الطرق كثيرة، فهو سبحانه يلقي في قلوبكم نور الإيمان، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى، وفي أرادتكم القوّة والتصميم أكثر، وفي أفكاركم الهدوء والإطمئنان.
ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم، ويغيّر مسار الحوادث لصالحكم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب، ويصيّر نشاطاتكم وجهودكم مثمرة.
نعم، إنّ نصرة الله تحيط بالجسم والروح، من الداخل والخارج.
إلاّ أنّه سبحانه يؤكّد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كلّ أشكال النصرة، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو أهم رمز للإنتصار، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر، ولذلك نقرأ في قصة محاربة طالوت - القائد العظيم لبني إسرائيل - لجالوت - المتسلّط الجائر القوي - أنّ المؤمنين القليلين الذين كانوا معه عندما واجهوا جيش العدو الجرار، قالوا: (ربّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
ونقرأ في الآية التي بعدها: (فهزموهم بإذن الله).
أجل، إنّ نتيجة ثبات القدم هي النصر المؤزّر على العدو.
ولمّا كانت حشود العدو العظيمة، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر المجاهدين في سبيل الله أحياناً، فإنّ الآية التالية تضيف: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضلّ أعمالهم) (1).
"تعس" - على وزن نحس - بمعنى الإنزلاق والهوي، وما فسّره البعض بأنّه الهلاك والإنحطاط، فهو لازمه في الواقع لا معناه.
وعلى كلّ حال، فإنّ المقارنة بين هذين الفريقين عميقة المعنى جدّاً، فالقرآن يقول في شأن المؤمنين (يثبّت أقدامهم) وفي شأن الكافرين (أضلّ أعمالهم) وبصيغة اللعنة، ليكون التعبير أبلغ وأكثر جاذبية وتأثيراً.
نعم، إنّ الكافرين إذا انزلقوا وزلّت أقدامهم، فليس هناك من يأخذ بأيديهم لينقذهم من الهلكة، بل إنّهم سينحدرون إلى الهاوية سريعاً وبسهولة، أمّا المؤمنون، فإنّ ملائكة الرحمة تهب لنجدتهم ونصرتهم، ويحفظونهم من المنزلقات والمنحدرات، كما نقرأ ذلك في موضع آخر، حيث تقول الآية (30) من سورة فصلت: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة).
إنّ أعمال المؤمنين مباركة، أمّا أعمال الكافرين فإنّها بائرة ولذلك فهي تزول وتفنى سريعاً.
وتبيّن الآية التالية علّة سقوط هؤلاء، وجعل أعمالهم هباءً منثوراً، فتقول: (ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم).
لقد أنزل الله سبحانه دين التوحيد قبل كلّ شيء، إلاّ أن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.
لقد أمر الله سبحانه بالحق والعدالة، والعفّة والتقوى، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعاً، واتجهوا صوب الظلم والفسّاد، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم الله تعالى وحده: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) (2).
وإذا كان هؤلاء يتنفّرون من هذه الأُمور، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في هذا المسير، ولقد كانت كلّ مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته، فمن الطبيعي أيضاً أن تحبط كلّ هذه الأعمال.
وجاء في حديث عن الإمام الباقر (ع): "كرهوا ما أنزل الله في حق علي" (3).
ومعلوم أنّ لتعبير (ما أنزل الله) معنى واسعاً، ومسألة ولاية أمير المؤمنين علي (ع) أحد مصاديقه الواضحة، لا أنّ معناه منحصر فيها.
ولمّا كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج محسوسة، فقد دعاهم هنا أيضاً إلى التدبّر في أحوال الماضين، فقال: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم) ؟
ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّاً بالأقوام الطاغين الماضين، فقد أضافت الآية: (وللكافرين أمثالها) (4).
فلا يظنّوا أنّهم في منأى من العقاب المشابه لذلك العقاب إن هم عملوا أعمالاً تشابه أعمال الماضين، فليسيروا في الأرض ولينظروا آثار الذين من قبلهم، ثمّ لينظروا مستقبلهم من خلال سنن التأريخ.
والجدير بالإنتباه أنّ (دمّر) من مادة (تدمير)، وهي من الأصل بمعنى الإهلاك والإفناء، أمّا إذا أتت مع (على) فإنّها تعني إهلاك كلّ شيء حتى الأولاد والأهل والعشيرة والأموال الخاصّة بالإنسان (5).
وعلى هذا فإنّ هذا التعبير بيان لمصيبة أليمة، خاصة بملاحظة لفظ (على) الذي يستعمل عادةً في مورد التسلط، وبذلك يصبح معنى الجملة، إنّ الله عزَّ وجلَّ قد صبَّ عذابه على رؤوس هؤلاء الأقوام وأموالهم وكلّ ما يتعلّق بهم فأفناها جميعاً.
وقد بحثنا موضوع "السير في الأرض" - والذي يؤكّد عليه القرآن المجيد مراراً كبرنامج توعية مؤثر - بصورة مفصّلة في ذيل الآية (137) من سورة آل عمران، والآية (45) من سورة الروم.
وتناولت آخر آية - من الآيات مورد البحث - سبب حماية الله المطلقة للمؤمنين ودفاعه عنهم، وإهلاكه الكافرين الطغاة، فتقول: (ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم) (6).
"المولى" بمعنى الولي والناصر، وبذلك فإنّ الله سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ونصرتهم، أمّا الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته، ومن الواضح أنّه تعالى يعين أُولئك المستظلين بظل ولايته، ويدفع عنهم النوائب، ويزيل عن طريقهم العراقيل، ويثبّت أقدامهم، وأخيراً فإنّهم ينالون مرادهم بنصرة الله ومعونته.
أمّا أُولئك الخارجون عن ولايته فإنّ أعمالهم ستحبط، وتكون عاقبتهم الهلاك.
وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ الله سبحانه مولى المؤمنين فقط، في حين أنّه سبحانه وصف في بعض آيات القرآن الأُخرى بأنّه مولى الجميع حتى الكافرين، كما في الآية (30) من سورة سورة يونس حيث تقول: (وردّوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون).
وتتّضح الإجابة على هذا السؤال بملاحظة نكتة واحدة، وهي: إنّ ولاية الله العامّة - وهي كونها خالقاً مدبّراً - تعم الجميع، أمّا الولاية الخاصّة، وعنايته الخاصة المقترنة بأنواع الحماية والنصرة، فإنّها لا تشمل إلاّ المؤمنين (7).
وقال البعض: إنّ هذه الآية أرجى آية في القرآن، لأنّها أدخلت كلّ المؤمنين، العالم منهم والجاهل، الزاهد والراغب، الصغير والكبير، المرأة والرجل، الشاب والكهل، أدخلتهم تحت حماية الله ورعايته الخاصة، ولم تستثنِ حتى المؤمنين العاصين، فهو سبحانه يظهر رعايته في المواقف الحسّاسة واللحظات الحرجة، والحوادث والمصائب والنكبات، وكلّ فرد منّا قد أحسَّ بهذه الرعاية طيلة مدة حياته، وفي التأريخ شواهد كثيرة على ذلك.
وقد ورد في حديث أنّ النّبي (ص) كان بعد غزوة تحت شجرة وحيداً فحمل عليه مشرك بسيف فقال له: من يخلّصك منّي؟ فقال النّبي (ص): "الله" فسقط المشرك - فأخذت الكافر رعدة، وهوى على الأرض - السيف، فأخذه النّبي (ص) وقال له: "فمن يخلّصك منّي"؟ قال: لا أحد، ثمّ أسلم (8).
نعم، الله مولى الذين آمنوا، وإنّ الكافرين لا مولى لهم.
1- "تعساً" مفعول مطلق لفعل مقدّر، والتقدير: تعسهم تعساً، وجملة (أضلّ أعمالهم) عطف على هذا الفعل المقدّر، وكلاهما بصيغة اللعنة، مثل (قاتلهم الله)، ومن الواضح أنّ اللعنة من قبل الله تعني وقوعها.
2- الزمر، الآية 45.
3- مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.
4- ضمير "أمثالها" يعود إلى العاقبة التي تستفاد من الجملة السابقة.
5- تفسير روح المعاني، وروح البيان، والفخر الرازي.
6- المشار إليه بـ(ذلك) هي عاقبة المؤمنين الحسنة، وعاقبة الكافرين المشؤومة، واللتان أشير إليهما في الآيات السابقة.
7- فسّر البعض - كالآلوسي في روح المعاني - "المولى" في الآية مورد البحث بالناصر، وفي آية سورة يونس وأمثالها. بالمالك.
8- روح البيان، المجلد 8، صفحة 503.