الآيات 4 - 6

﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلـكِن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْض وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـلَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾

التّفسير

يجب الحزم في ساحة الحرب:

كما قلنا سابقاً، فإنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث، فتقول الآية: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (1).

من البديهي أن "ضرب الرقاب" كناية عن القتل، وعلى هذا فلا ضرورة لأن يبذل المقاتلون قصارى جهدهم لأداء هذا الأمر بالخصوص، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له، فقد أكّدت الآية عليه.

وعلى أية حال، فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال، لأنّ "لقيتم" - من مادة اللقاء - تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد، وفي نفس هذه الآية قرائن عديدة تشهد لهذا المعنى كمسألة أسر الأسرى، ولفظة الحرب، والشهادة في سبيل الله، والتي وردت في ذيل الآية.

وخلاصة القول: إنّ اللقاء يستعمل - أحياناً - بمعنى اللقاء بأي شكل كان، وأحياناً بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب، واستعمل في القرآن المجيد بكلا المعنيين، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثّاني.

ومن هنا يتّضح أنّ أُولئك الذين حوّروا هذه الآية وفسّروها بأنّ الإسلام يقول: حيثما وجدتم كافراً فاقتلوه، لم يريدوا إلاّ الإساءة إلى الإسلام، واتخاذ الآية بمعناها المحرّف حربة ضد الدين الحنيف، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام الناصعة، وإلاّ فإنّ الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال.

من البديهي أنّ الإنسان إذا واجه عدواً شرساً في ميدان القتال، ولم يقابله بحزم ولم يكل له الضربات القاصمة ولم يذقه حرّ سيفه ليهلكه، فإنّه هو الذي سيهلك، وهذا القانون منطقي تماماً.

ثمّ تضيف الآية: (حتى إذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق).

"أثخنتموهم" من مادة ثخن، بمعنى الغلظة والصلابة، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة، والسيطرة الكاملة على العدو.

وبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين فسّروا هذه الجملة بكثرة القتل في العدو وشدّته، إلاّ أنّ هذا المعنى لا يوجد في أصلها اللغوي، كما قلنا، ولكن لمّا كان دفع خطر العدو غير ممكن أحياناً إلاّ بكثرة القتل فيه، فيمكن أن تكون مسألة القتل أحد مصاديق هذه الجملة في مثل هذه الظروف، لا أنّها معناها الأصلي (2).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليماً عسكرياً دقيقاً، وهو أنّه يجب أن لا يُقدَم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سبباً في تزلزل وضع المسلمين في الحرب، وسيعوق المسلمين الإهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وعبارة (فشدّوا الوثاق) وبملاحظة أنّ الوثاق هو الحبل، أو كلّ ما يربط به، يشير إلى إتقان العمل في شدّ وثاق الأسرى، لئلا يستغل الأسير فرصة يفر فيها، ثمّ يوجّه ضربةً إلى الإسلام والمسلمين.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب، فتقول: (فإمّا منا بعد وإمّا فداء) وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب، بل إنّ ولي أمر المسلمين - طبقاً للمصلحة التي يراها - يطلق سراحهم مقابل عوض أحياناً، وبلا عوض أحياناً أخرى، وهذا العوض - في الحقيقة - نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعاً يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو استعباد الأسرى، إلاّ أنّه ليس أمراً واجباً، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عندما يراه ضرورة في ظروف خاصة، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

يقول فقيهنا المعروف "الفاضل المقداد" في "كنز العرفان": إنّ ما روي عن مذهب أهل البيت (ع) أنّ الأسير لو أسر بعد انتهاء الحرب فإنّ إمام المسلمين مخيّر بين ثلاث: إمّا إطلاقه دون شرط، أو تحريره مقابل أخذ الفدية، أو جعله عبداً، ولا يجوز قتله بأي وجه.

ويقول في موضع آخر من كلامه: إنّ مسألة الرق استفيدت من الروايات، لا من متن الآية (3).

وقد وردت هذه المسألة في سائر الكتب الفقهية أيضاً (4).

وسنشير إلى هذا المطلب في بحث الرق الذي سيأتي في ذيل هذه الآيات.

ثمّ تضيف الآية بعد ذلك: (حتى تضع الحرب أوزارها) (5) فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزاً عن مواجهتكم، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

"الأوزار" جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويطلق أحياناً على المعاصي، لأنّها تثقل كاهل صاحبها.

والطريف أنّ هذه الأوزار نسبت إلى الحرب في الآية، إذ تقول: (حتى تضع الحرب أوزارها) وهذه الأحمال الثقيلة كناية عن أنواع الأسلحة والمشاكل الملقاة على عاتق المقاتلين، والتي يواجهونها، وهي بعهدتهم ما كانت الحرب قائمة.

لكن متى تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟

سؤال أجاب عنه المفسّرون إجابات مختلفة:

فالبعض - كابن عباس - قال: حتى لا تبقى وثنية على وجه البسيطة، وحتى يقتلع دين الشرك وتجتث جذوره.

وقال البعض الآخر: إنّ الحرب بين الإسلام والكفر قائمة حتى ينتصر المسلمون على الدجال، وهذا القول يستند إلى حديث روي عن الرّسول الأكرم (ص) أنّه قال: "والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدجال" (6).

البحث حول "الدجّال" بحث واسع، لكن القدر المعلوم أنّ الدجّال رجل خدّاع، أو رجال خدّاعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل التوحيد والحق والعدالة، وسيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة، وعلى هذا فإنّ الحرب قائمة بين الحق والباطل ما عاش الدجّالون على وجه الأرض.

إنّ للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر: أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات التي غزاها النّبي (ص) حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة.

والآخر هو الحرب المستمرة ضد الشرك والكفر، والظلم والفساد، وهذا النوع مستمر حتى زمن اتساع حكومة العدل العالمية، وظهورها على الأرض جميعاً على يد المهدي (عج).

ثمّ تضيف الآية: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم) (7) بالصواعق السماوية، والزلازل، والعواصف، والإبتلاءات الأُخرى، لكن باب الإختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة: (ولكن ليبلو بعضكم ببعض).

هذه المسألة هي فلسفة الحرب، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة، وبذلك ستتفتح براعم الإستعدادات، وتحيا قوّة الإستقامة والرجولة، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا، وهو الإبتلاء وتنمية قوّة الإيمان والقيم الإنسانية الأُخرى.

إذا كان المؤمنون يتقوقعون على ذواتهم وينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة، وفي كل مرة تطغى فيها جماعة من المشركين والظالمين يدحضهم الله سبحانه بالقوى الغيبية، ويدمّرهم بالطرق الإعجازية، فإنّ المجتمع سيكون خاملاً ضعيفاً عاجزاً، ليس له من الإسلام والإيمان إلاّ اسمه.

وخلاصة القول: إنّ الله سبحانه غني عن سعينا وجهادنا من أجل تثبيت دعائم دينه، بل نحن الذين نتربّى في ميدان جهاد الأعداء، ونحن الذين نحتاج إلى هذا الجهاد المقدّس.

وقد ذكر هذا المعنى في آيات القرآن الأُخرى بصيغ أخرى، فنقرأ في الآية (142) من سورة آل عمران: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).

وجاء في الآية التي سبقتها: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي، فقالت: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم).

فلن تذهب جهودهم وآلامهم وتضحياتهم سدى، بل كلها محفوظة عند الله سبحانه، فستبقى آثار تضحياتهم في هذه الدنيا، وكلّ نداء (لا إله إلاّ الله) يطرق سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء، وكلّ سجدة يسجدها مسلم بين يدي الله هي من بركات تضحياتهم، فبمساعيهم تحطّمت قيود المذلّة والعبودية، وعزّة المسلمين ورفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح والتضحيات.

هذه هي أحدى مواهب الله في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب أُخرى أضيفت في الآيات التالية:

تقول الآية أوّلاً: (سيهديهم) إلى المقامات السامية، والفوز العظيم، ورضوان الله تعالى.

والأُخرى: (يصلح بالهم) فيهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط المعنوي والروحي، والإنسجام مع صفاء ملائكة الله ومعنوياتهم، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار رحمته.

والموهبة الأخيرة هي: (ويدخلهم الجنّة عرّفها لهم).

قال بعض المفسّرين: إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكلية للجنّات العلى وروضة الرضوان وحسب، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنّة وعلاماتها، بحيث أنّهم عندما يردون الجنّة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة (8).

وفسر البعض (عرّفها) بأنّها من مادة "عرف" - على زنة فكر ـ، وهو العطر الطيب الرائحة، أي إنّ الله سبحانه سيدخلهم الجنّة التي عطّرها جميعاً استقبالاً لضيوفه.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

وقال البعض: إذا ضممنا هذه الآيات إلى آية: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) (9)، سيتّضح أنّ المراد من إصلاح البال إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء (10).

بحوث

1 - مقام الشهداء السامي

تمرّ في تأريخ الشعوب أيام تحدق الأخطار فيها بتلك الأمم والشعوب، ولا يمكن دفع هذه الأخطار والحفاظ على الأهداف المقدّسة العظيمة إلاّ بالتضحية والفداء وتقديم القرابين الكثيرة، وهنا يجب أن يتوجّه المؤمنون المضحّون إلى ساحات القتال، ليحفظوا دين الحق بسفك دمائهم، ويسمى هؤلاء الأفراد في منطق الإسلام بـ "الشهداء".

إنّ إطلاق كلمة الشهيد - من مادة الشهود - على هؤلاء، إمّا لحضورهم في ميدان الجهاد ضد أعداء الحق، أو لأنّهم يشاهدون ملائكة الرحمة لحظة شهادتهم، أو لمشاهدتهم النعم العظيمة التي أُعدّت لهم، أو لحضورهم عند الله، كما جاء في الآية الشريفة: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون) (11).

وقلّ من يصل إلى درجة الشهيد في الإسلام... أُولئك الشهداء الذين يذهبون ساحة الحرب بين الحق والباطل عن وعي وخلوص نيّة، ويقدّمون آخر قطرة من دمائهم الزكية في هذا السبيل.

وتلاحظ في المصادر الإسلامية روايات عجيبة حول مقام الشهداء، تحكي عظمة عمل الشهداء، وقيمته الفذّة.

فتقرأ في حديث عن رسول الله (ص): "إنّ فوق كلّ بر براً حتى يقتل الرجل شهيداً في سبيل الله" (12).

وجاء في حديث آخر روي عنه (ص): "المجاهدون في الله قوّاد أهل الجنّة" (13).

ونطالع في حديث آخر عن الإمام الباقر (ع): "ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله، أو قطرة من دموع عين في سواد الليل من خشية الله، وما من قدم أحبّ إلى الله من خطوة إلى ذي رحم، أو خطوة يتمّ بها زحفاً في سبيل الله" (14).

وإذا قلبنا أوراق تأريخ الإسلام، فسنرى الشهداء قد سجّلوا القسم الأعظم من الإفتخارات، وهم الذين قدّموا القسط الأوفر من الخدمة.

وليس هذا في الأمس فقط، فإنّ ثقافة الشهادة المصيرية اليوم ترعب العدو أيضاً، وتمزّق صفوفه، وتمنعه من النفوذ إلى حصون الإسلام، وتزرع اليأس في نفسه من إمكان تخطّيها، فما أكثر بركة ثقافة الشهادة للمسلمين، وما أشدّها على أعداء الدين.

لكن، لا شكّ أنّ الشهادة ليست هدفاً، بل الهدف هو الإنتصار على العدو، وحراسة دين الله والحفاظ عليه، إلاّ أنّ هؤلاء الحراس على دينهم يجب أن يكونوا على أهبّة الإستعداد، بحيث إذا إحتاج الحال بذل النفوس والدماء فإنّهم لا يتأخّرون عن بذلها، بل يبادرون إلى البذل والتضحية والإيثار، وهذا هو معنى كون الأمّة منجبة للشهداء، لا أنّهم يطلبون الشهادة كهدف نهائي.

لهذا نقرأ في نهاية حديث مفصل روي عن أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) في شأن مقام الشهداء أنّ النّبي (ص) أقسم وقال: "والذي نفسي بيده، لو كان الأنبياء في طريقهم لترجلوا لهم لمّا يرون من بهائهم، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرته".

وهناك نكتة تستحق الإهتمام، وهي أنّ للشهادة في ثقافة الإسلام معنيين مختلفين: معنى "خاص"، وآخر "عام" واسع.

أمّا الخاص فهو القتل في سبيل الله في معركة الجهاد، وله أحكامه الخاصة في الفقه الإسلامي، ومن جملتها أنّ الشهيد لا يغسل ولا يكفن، بل يدفن بثيابه ودمائه إذا توفي في ميدان المعركة!!

أمّا المعنى العام الواسع للشهادة، فهو أن يقتل الإنسان في طريق تأدية الواجب الإلهي، فإنّ كلّ من يرحل عن الدنيا وهو في حالة أداء هذا الواجب يعد شهيداً، ولذلك ورد في الروايات الإسلامية أنّ عدة فئات يغادرون الدنيا وهم شهداء:

1 - روي عن نبي الإسلام الأكرم (ص): "إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذا الحال مات شهيداً" (15).

2 - يقول أمير المؤمنين علي (ع): "من مات على فراشه وهو على معرفة حق ربّه، وحق رسوله وأهل بيته، مات شهيداً" (16).

3 - نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): "من قتل دون ماله فهو شهيد" (17).

وكذلك آخرون يقتلون في طريق الحق، أو يموتون فيه، ومن هنا تتّضح عظمة ثقافة الإسلام هذه، ومدى سعتها.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، عن آبائه عن رسول الله (ص): "أوّل من يدخل الجنّة الشهيد" (18).

2 - أهداف القتال في الإسلام

إنّ القتال لا يعتبر في الإسلام قيمة من القيم، بل يعتبر ضد القيم من جهة كونه باعثاً على الخراب والتدمير، وإزهاق الأنفس، وإهدار القوى والإمكانيات التي يمكن أن تسخّر لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه، ولذلك جُعل في بعض الآيات القرآنية في مصاف العقوبات الإلهية، فنرى الآية (65) من سورة الأنعام تقول: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ومن تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض).

فقد اعتبر القتال هنا بمثابة الصاعقة والزلزلة والإبتلاءات الأرضية والسماوية، ولذلك فإنّ الإسلام يمتنع عن القتال والحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

أمّا إذا تعرّض وجود الأمّة للخطر، أو أنّ أهدافه المقدّسة السامية أصبحت مهددة بالسقوط، فإنّ القتال هنا يعتبر قيمة سامية، ويكتسب عنوان الجهاد في سبيل الله، ولذلك توجد في الإسلام أنواع من الجهاد: الجهاد الابتدائي، المحرر للأُمم، والجهاد الدفاعي، والجهاد من أجل إخماد نار الفتنة والشرك والوثنية، وقد أوردنا تفصيلها في موضع آخر (19).

بناءً على هذا فإنّ الجهاد الإسلامي على خلاف ما يدّعيه أعداء الإسلام من أنّه يعني فرض العقيدة على الآخرين، بل إنّ العقيدة المفروضة لا قيمة لها في الإسلام، لكن الجهاد يتعلق بالموارد التي يشن فيها العدو الحرب ضد الأمّة الإسلامية، أو عندما يسلبها الحريات التي منحها الله إيّاها، أو أنّه يريد أن يهدر حقوقها ويصادرها، أو أنّ ظالماً قد أخذ بأنفاس مظلوم فيجب على المسلمين حينئذ أن يهبوا لنصرة المظلوم، حتى وإن أدّى الأمر إلى قتال القوم الظالمين.

وقد عكست الآيات السابقة هذا المعنى في عبارة لطيفة وجيزة، حينما تقول: (ذلك بأنّ الذين كفروا اتبعوا الباطل وأنّ الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربّهم) وعلى هذا فإنّ الحرب هي حرب بين الحق والباطل، لا أنّها وسيلة لتكوين الدولة، ومحاولة توسيع رقعتها، والإغارة على أموال الآخرين، والتسلّط وإعمال القوة والإرهاب.

ولهذا السبب - أيضاً - قرأنا في الرواية التي أوردناها في تفسير هذه الآيات أنّ نار الحرب لن تخمد في المجتمع الإنساني إلاّ بعد القضاء على الدجّالين، وتطهير الأرض من دنسهم.

وهنا نكتة تستحق الإنتباه، وهي أنّ الإسلام قد أكّد على مسألة التعايش السلمي مع أتباع الأديان السماوية الأُخرى، وقد وردت في الآيات والرّوايات والفقه الإسلامي بحوث مفصلة في هذا الباب تحت عنوان (أحكام أهل الذمّة) فإذا كان الإسلام يؤيّد فرض العقيدة والإكراه عليها، ويتوسّل بالقوة والسيف من أجل تحقيق أهدافه، فأي معنى إذن لقانون أهل الذمّة والتعايش السلمي؟

3 - أحكام أسرى الحرب

قلنا: يجب على المسلمين أن لا يفكروا في أسر أفراد العدو إلاّ بعد هزيمة العدو الكاملة واندحاره التام، لأنّ هذا التفكير والإنشغال بالأسرى قد يتضمّن أخطاراً جسيمة.

غير أنّ أُسلوب الآيات - مورد البحث - يدل على وجوب الإقدام على أسر أفراد العدو بعد هزيمته، فالآية تقول: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) ثمّ تضيف: (حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق) وعلى هذا يجب أسرهم بدل قتلهم بعد الإنتصار عليهم، وهو أمر لابدّ منه، لأنّ العدو إذا ترك وشأنه فمن الممكن أن ينظم قواه مرّة أُخرى ليهجم على المسلمين من جديد.

إلاّ أنّ الحال يختلف بعد الأسر، إذ يكون الأسير أمانة إلهية بيد المسلمين رغم كلّ الجرائم التي ارتكبها، ويجب أن تراعى فيه حقوق كثيرة.

إنّ القرآن يمجد أولئك الذين آثروا الأسير على أنفسهم، وقدّموا له طعامهم، فيقول: (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) وهذه الآية - طبقاً لرواية معروفة - نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (ع)، إذ كانوا صائمين وأعطوا إفطارهم لمسكين مرّة وليتيم أخرى، لأسير ثالثة.

وحتى الأسرى الذين يقتلون بعد الحرب استثناءاً، إمّا لكونهم خطرين، أو لارتكابهم جرائم خاصّة، فإنّ الإسلام أمر أن يحسن إليهم قبل تنفيذ الحكم بحقّهم، كما نرى ذلك في حديث عن علي (ع): "إطعام الأسير والإحسان إليه حق واجب، وإنّ قتلته من الغد" (20).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة (21)، حتى أنّه ورد في حديث عن الإمام علي بن الحسين (ع) أنّه قال: "إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه" (22).

بل ورد في التأريخ في أحوال أئمة أهل البيت ع أنّهم كانوا يطعمون الأسرى من نفس الطعام الذي كانوا يتناولونه.

إلاّ أنّ حكم الأسير - وكما قلنا في تفسير الآيات - بعد انتهاء الحرب أحد ثلاثة: إمّا إطلاق سراحه من دون قيد أو شرط، أو إطلاق سراحه مقابل دفع غرامة مالية هي الفدية، أو استرقاقه، واختيار أحد هذه الأُمور الثلاثة منوط بنظر إمام المسلمين، فهو الذي يختار ما يراه الأصلح بعد الأخذ بنظر الإعتبار ظروف الأسرى، ومصالح الإسلام والمسلمين من الناحية الداخلية والخارجية، وبعد ذلك يأمر بتنفيذ ما اختاره.

بناءً على هذا، فليس لأخذ الفدية أو الاسترقاق صفة الإلزام والوجوب، بل هما تابعان للمصالح التي يراها إمام المسلمين، فإذا لم تكن مصلحة فيهما فله أن يغض النظر عنهما، ويطلق سراح الأسرى دون طلب الفدية.

وقد بحثنا حول فلسفة أخذ الفدية بصورة مفصلة لدى تفسير الآية 70 من سورة الأنفال.

4 - الرق في الإسلام

بالرغم من أنّ مسألة "استرقاق أسرى الحرب" لم ترد في القرآن المجيد كحكم حتمي، لكن لا يمكن إنكار ورود أحكام في القرآن فيما يتعلق بالعبيد، وهي تثبت وجود أصل الرقية حتى في زمان النّبي (ص) وصدر الإسلام، كالأحكام المتعلقة بالزواج من العبيد، أو كونهم محرماً، أو مسألة المكاتبة (وهي اتفاق يتحرر بموجبه العبد بعد أدائه مبلغاً من المال يتفق عليه) وقد وردت هذه الأحكام في آيات عديدة من القرآن في سورة النساء، النحل، المؤمنون، النور، الروم، والأحزاب.

وهنا يعترض البعض على الإسلام بأنّه: لماذا لم يلغ هذا الدين الإلهي مسألة الرق تماماً مع ما يحتويه من القيم الإنسانية السامية، ولم يعلن تحرير كلّ العبيد من خلال إصدار حكم قطعي؟!

صحيح أنّ الإسلام أوصى كثيراً بالرقيق، إلاّ أنّ المهم هو تحريرهم بدون قيدشرط، فلماذا يكون الإنسان مملوكاً لإنسان آخر مثله، ويفقد الحرية التي هي أعظم عطايا الله سبحانه؟!

الجواب:

يجب القول في جملة موجزة: إنّ للإسلام برنامجاً دقيقاً مدروساً لتحرير العبيد، تؤدي نهايته إلى تحرير جميع العبيد تدريجياً، دون أن يكون لهذه الحرية ردّ فعل سلبي في المجتمع.

وقبل أن نتناول توضيح هذه الخطة الإسلامية الدقيقة، نرى لزاماً ذكر عدة نقاط كمقدمة:

1 - الإسلام لم يكن المبتدع للرق مطلقاً، بل إنّه لمّا ظهر كانت مسألة العبودية والرقيق قد عمّت أرجاء العالم، وكانت معجونة بظلام المجتمعات البشرية وبوجودها، بل استمرت مسألة الرقيق في كلّ المجتمعات حتى بعد الإسلام أيضاً، وبقيت مستمرة حتى قبل مائة عام حيث بدأت ثورة تحرير الرقيق، حيث لم تعد مسألة الرقيق مقبولة بشكلها القديم نتيجة اختلاف نظام حياة البشر، وتغيره عمّا كان عليه.

إنّ إلغاء العبودية بدأ من أوربا، ثمّ اتسع في سائر الدول ومن جملتها أمريكا وآسيا.

لقد استمر الرق في إنجلترا حتى سنة 1840، وفي فرنسا حتى سنة 1848، وفي هولندا إلى سنة 1863، وفي أمريكا إلى سنة 1865، ثمّ عقد مؤتمر بروكسل فأصدر قراراً بإلغاء الرق في أنحاء العالم، وكان ذلك سنة 1890، أي قبل أقل من مائة عام.

2 - تغيير شكل الرق في دنيا اليوم: صحيح أنّ الغربيين كانوا قد سبقوا إلى إلغاء الرق، إلاّ أنّنا عندما نحقق في المسألة بدقة، نرى أنّ الرق لم تقتلع جذوره، بل إنّه تحور من حالة إلى أُخرى أخطر وأكثر رعباً، أي إنّه اتخذ شكل استعمار الشعوب، واسترقاق المستعمرات، بحيث كلما ضعف الرق الفردي قوي الإسترقاق الجماعي والإستعمار، فإنّ الإمبراطورية البريطانية التي كانت سبّاقة إلى إلغاء الرق، تعتبر السبّاقة أيضاً في استعمار الشعوب.

إنّ الجرائم التي ارتكبها المستعمرون الغربيون طوال مدة استعمارهم لم تكن أقل من جرائم مرحلة العبودية، بل كانت أوسع وأشدّ إجراماً.

وحتى بعد تحرر المستعمرات، فإنّ استعباد الأُمم قد استمر، لأنّ هذه الحرية كانت حرية سياسية، أمّا الإستعمار الإقتصادي والثقافي فلا يزال حاكماً في كثير من المستعمرات التي نالت حريتها، وغيرها.

وأمّا الدول الشيوعية التي نادت قبل الجميع بإلغاء العبودية، واتخذتها ذريعة في ثورتها، فإنّها بالذات مبتلاة بنوع من الإسترقاق العام الذي يندى له الجبين، فإنّ الشعوب التي تعيش في ظل هذه الدول تكون كالعبيد تماماً لا يملكون من أمرهم شيئاً، ويعيّن أعضاء الحزب الشيوعي كلّ مقدراتهم وما يتعلق بشؤون حياتهم، وإذا ما أبدى أحد وجهة نظر مخالفة فإمّا أن يرسل إلى المخيّمات الإجبارية، أو يلقى في دهاليز السجون، وإذا كان من العلماء فإنّه يبعث إلى دار المجانين باعتباره مختل العقل ومصاباً بمرض نفسي وعصبي.

والخلاصة: إنّ الرق لا يتبع الاسم، فإنّ القبيح والمرفوض هو محتوى الرق، ونحن نعلم أنّ مفهوم الرق قائم في الدول الإستعمارية والدول الشيوعية بأسوأ أشكاله.

والنتيجة: إنّ إلغاء الرق في العالم كان صورياً، ولم يكن في الحقيقة إلاّ تبديل للصورة والشكل الظاهري.

3 - مصير الرقيق المؤلم في الماضي لقد كان للرقيق على مرّ التاريخ مصير مؤلم جدّاً، ولنأخذ على سبيل المثال عبيد الرومان - باعتبارهم قوماً متمدنين - كنموذج، فإنّهم - على حدِّ قول كاتب "روح القوانين" - كانوا تعساء بحيث لم يكونوا عبيداً لفرد، وإنّما كانوا يعتبرون عبيداً لكل المجتمع، وكان باستطاعة كلّ شخص أن يعذّب عبده ويؤذيه كما يحلو له دون خوف من القانون.

لقد كانت حياة أولئك أسوأ من حياة الحيوانات في الواقع.

لقد كان الكثير من الرقيق يموتون في الفترة بين اصطيادهم من المستعمرات الأفريقية وحتى عرضهم في الأسواق للبيع، وما تبقى منهم كان يُتخذ وسيلة للإستغلال في العمل.

وكان تجار العبيد الطامعون لا يعطونهم من الغذاء إلاّ ما يبقيهم أحياء وقادرين على العمل، أمّا عند كبرهم وعجزهم وابتلائهم بأمراض يصعب علاجها، فإنّهم كانوا يتركونهم وشأنهم ليسلموا الروح بشكل أليم.

ولذلك كان اسم الرق يقترن بسيل من الجرائم المرعبة على مرّ التاريخ.

وباتضاح هذه النكات نعود إلى خطة الإسلام في تحريره العبيد تدريجياً، ونتناولها بصورة مختصرة.

4 - خطة الإسلام لتحرير العبيد إنّ ما يغفل عنه غالباً هو أنّ ظاهرة سلبية إذا توغّلت في مفاصل المجتمع، فهناك حاجة إلى فترة زمنية لاقتلاع جذورها، ولكلّ حركة غير مدروسة ردّ فعل سلبي، تماماً كما إذا ابتلي إنسان بمرض خطير، وقد استفحل هذا المرض في بدنه، أو من اعتاد على تناول المخدارات لعشرات السنين حتى تطبع على هذه الطبيعة المستهجنة، ففي هذه الموارد يجب الإعتماد على برامج زمنية لعلاجه قد تطول وقد تقصر.

ونقول بأسلوب أكثر صراحةً: لو أنّ الإسلام كان قد أصدر أمراً عاماً بتحرير كل العبيد، فربّما كان الضرر أكثر، وقد يهلك منهم عدد أكثر، لأنّ الرقيق كانوا يشكلون نصف المجتمع أحياناً، وليس لهم عمل مستقل يتكسبون به، ولا دار أو ملجأ، أو وسيلة ما لإدامة الحياة.

إنّ هؤلاء لو تحرّروا في ساعة معينة من يوم معين فستظهر على الساحة فجأةً جماعة عظيمة عاطلة عن العمل، وعندها ستكون حياتهم مهددة وربّما أدّى إلى إرباك نظام المجتمع، وعندما يلح عليه الحرمان فسيجد نفسه مضطراً إلى الهجوم على ممتلكات الآخرين، فتنشب الصراعات والإشتباكات ونزف الدماء.

هنا ندرك الغاية من التحرير التدريجي، وذلك ليستوعبهم المجتمع ولا يشمئز منهم، وحينئذ سوف لا تتعرض أرواحهم للخطر، كما لا يتهدد أمن المجتمع، وقد اتبع الإسلام هذا البرنامج الدقيق تماماً.

إنّ تطبيق وترجمة هذا البرنامج الإنساني على أرض الواقع العملي له قواعد كثيرة نذكر هنا رؤوس نقاطها بصورة موجزة وكفهرس، أمّا تفصيلها فيحتاج إلى كتاب مستقل:

المادة الأولى: غلق مصادر الرق

لقد كان للرق على طول التاريخ أسباب كثيرة، فلم يقتصر الإستعباد على أسرى الحرب، والمدينين الذين يعجزون عن أداء ديونهم، حيث كانت القوّة والغلبة تبيح الإسترقاق والإستعباد، بل إنّ الدولة القوية كانت ترسل فرق من جيوشها وهم مدجّجون بأنواع الأسلحة إلى الدول الأفريقية المتخلفة وأمثالها، ليأسروا شعوب تلك الدول جماعات جماعات، ثمّ يرسلونهم بواسطة السفن إلى أسواق بلدان آسيا وأوربا.

لقد منع الإسلام كلّ هذه المسائل، ووقف حائلاً دونها، ولم يبح الإسترقاق إلاّ في مورد واحد، وهو أسرى الحرب، وحتى هذا لم يكن يتصف بالوجوب والإلزام، بل إنّ الإسلام قد أجاز - وكما قلنا في تفسير الآيات المذكورة - إطلاق سراح الأسرى مقابل فدية يؤدّونها تبعاً لمصلحة الإسلام والمسلمين.

ولم تكن في تلك الأيام سجون يسجن فيها أسرى الحرب حتى يتبيّن وضعهم وماذا يجب فعله معهم، بل كان الطريق الوحيد هو تقسيمهم بين العوائل، والإحتفاظ بهم كرقيق.

من البديهي أنّ هذه الظروف إذا تغيّرت فلا دليل على أنّ إمام المسلمين ملزم بأن يرضى برق الأسرى، بل هو قادر على تحريرهم إمّا منّاً أو فداءً، لأنّ الإسلام خيّر الإمام المسلمين في هذا الأمر، كي يقدم على اختيار الأصلح من خلال مراعاة المصلحة، وبهذا فإنّ مصادر الرق الجديدة قد أُغلقت في الإسلام.

المادة الثانية: فتح نافذة الحرية

لقد وضع الإسلام برنامجاً واسعاً لتحرير العبيد، بحيث أنّ المسلمين لو عملوا بموجبه فإنّ كلّ العبيد كانوا سيتحررون في مدة وجيزة وبصورة تدريجية، وكان المجتمع سيستوعبهم ويؤمّن لهم ما يحتاجونه من اللوازم الحياتية، من عمل ومسكن وغير ذلك.

وإليك رؤوس نقاط هذا البرنامج:

أ - إنّ أحد الموارد الثمانية لصرف الزكاة في الإسلام شراء العبيد وعتقهم (23)، وبهذا فقد خصصت ميزانية دائمية في بيت المال لتنفيذ هذا الأمر، وهي مستمرة حتى إعتاق العبيد جميعاً.

ب - ولتكميل هذا المطلب وضع الإسلام أحكاماً يستطيع العبيد من خلالها أن يعقدوا اتفاقيات مع مالكيهم، على أن يؤدّوا إليهم مبلغاً من المال يتفق عليه مقابل الحصول على حريتهم.

وقد جاء في الفقه الإسلامي فصل في هذا الباب تحت عنوان المكاتبة (24).

ج - إنّ عتق العبيد يعتبر أحد أهم العبادات والأعمال الصالحة في الإسلام، وقد كان أئمة أهل البيت (ع) من السابقين في هذا المضمار، حتى كتبوا في أحوال علي (ع) أنّه أعتق ألف مملوك من كد يده (25).

د - لقد كان أئمة أهل البيت (ع) يعتقون العبيد لأدنى عذر ليكونوا قدوة للآخرين، حتى أنّ أحد غلمان الإمام الباقر (ع) عمل عملاً صالحاً، فقال له الإمام: "إذهب فأنت حر، فإنّي أكره أن أستخدم رجلاً من أهل الجنّة" (26).

وجاء في أحوال الإمام السجاد علي بن الحسين (ع)، أنّ جارية كانت تسكب عليه الماء، فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت: (والكاظمين الغيظ)، قال: "قد كظمت غيظي" قالت: (والعافين عن الناس)، قال: "عفا الله عنك"، قالت: (والله يحبّ المحسنين) قال: "فاذهبي فأنت حرّة لوجه الله" (27).

هـ - ورد في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ العبيد يتحرّرون تلقائياً بعد مرور سبع سنين، ففي رواية عن الإمام الصادق (ع): "من كان مؤمناً فقد عتق بعد سبع سنين، أعتقه صاحبه أم لم يعتقه، ولا يحل خدمة من كان مؤمناً بعد سبع سنين" (28).

وروي في هذا الباب حديث من النّبي الأكرم (ص)، أنّه قال: "ما زال جبرئيل يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنّه سيضرب له أجلاً يعتق فيه" (29).

و - إذا كان العبد مشتركاً بين اثنين، وأعتق أحدهما نصيبه، وجب عليه شراء نصيب شريكه وإعتاق العبد (30).

وإذا أعتق مالك العبد بعضه سرت الحرية إلى باقيه فيعتق جميعه (31).

ز - إذا ملك إنسان أباه، أو أمّه، أو أجداده، أو أبناءه، أو عمّه، أو عمّته، أو خاله، أو خالته، أو أخاه، أو أخته، أو ابن أخيه، أو ابن اخته، فإنّهم يعتقون فوراً.

ح - إذا استولد المالك جاريته فلا يجوز بيعها، وتعتق من سهم ولدها من الميراث.

وقد كان هذا الأمر سبباً في عتق الكثير من العبيد، لأنّ الجواري كن بمنزلة زوجات مالكيهن، وكان لهن أولاد منهم.

ط - لقد جعل عتق العبيد كفارةً لكثير من الذنوب من الإسلام، ككفارة القتل الخطأ، وكفارة ترك الصوم عمداً، وكفارة اليمين، وغيرها.

ي - إذا عاقب المالك عبده ببعض العقوبات الشديدة، فإنّ العبد ينعتق تلقائياً (32).

المادة الثالثة: إحياء شخصية الرقيق

عندما كان العبيد يطوون مسيرهم نحو الحرية طبقاً لبرنامج الإسلام الدقيق، أقدم الإسلام على خطوات واسعة لإحياء حقوقهم وشخصيتهم الإنسانية، حتى أنّه لم يفرق أبداً بين العبيد والأحرار من ناحية الشخصية الإنسانية، وجعل التقوى معياراً للتمييز بينهم، ولذلك أجاز للعبيد أن يتقلّدوا مسؤوليات مهمّة، ويتسنّموا مناصب اجتماعية مهمّة، حتى أنّ العبيد يمكنهم أن يشغلوا منصب القضاء (33).

وقد أُنيطت بالعبيد في زمن النّبي (ص) مراكز هامة وحسّاسة، ابتداءً من قيادة الجيش، وحتى المناصب الحسّاسة الأُخرى.

وقد كان الكثير من كبار صحابة النّبي (ص) عبيداً، أو رقيقاً أُعتقوا، وكان الكثير منهم يؤدّون واجبهم كمستشارين ومعاونين لعظماء الإسلام وقادته، ويمكن ذكر أسماء سلمان وبلال وعمار بن ياسر وقنبر من ضمن هذه القافلة.

وبعد أن انتهت غزوة بني المصطلق تزوّج النّبي (ص) بجارية عتيقة من هذه القبيلة، وكان هذا الزواج سبباً في إطلاق سراح كلّ أسرى القبيلة.

المادة الرابعة: المعاملة الإنسانية مع العبيد

لقد وردت في الإسلام تعليمات كثيرة حول الرفق بالعبيد ومداراتهم، حتى أنّها أشركتهم في حياة مالكيهم.

يقول النّبي الأكرم (ص): "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليكسه ممّا يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كان ما يغلبه فليعنه" (34).

ويقول علي (ع) لغلامه قنبر: "أنا أستحيي من ربّي أن أتفضل عليك، لأنّ رسول الله يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تأكلون" (35).

ويقول الإمام الصادق (ع): "وإن كان أبي ليأمرهم - أي غلمانه - فيقول: كما أنتم، فيأتي، فإن كان ثقيلاً قال: بسم الله، ثمّ عمل معهم" (36).

لقد كانت معاملة الإسلام مع العبيد في هذه المرحلة الإنتقالية حسنة إلى الحدِّ الذي أكّد عليها حتى الغرباء عن الإسلام وحمدوها ومجّدوها.

وكنموذج لذلك نذكر ما يقوله "جرجي زيدان" في تأريخ تمدّنه: إنّ الإسلام رحيم بالعبيد كلّ الرحمة، وقد أوصى نبيّ الإسلام بالعبيد كثيراً، ومن جملة ما قاله: لا تكلفوا العبد ما لا يطيق، وأطعموه ممّا تأكلون.

ويقول في موضع آخر: لا تنادوا مماليككم بيا غلام، ويا جارية، بل قولوا: يا بني، ويا ابنتي!

والقرآن أيضاً أوصى بالرقيق وصايا رائعة، فهو يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ولا تعاملوا آباءكم وأمّهاتكم وأولي أرحامكم واليتامى والفقراء والجيران، البعيد منهم والقريب، والأصدقاء، والمشرّدين، والرقيق، إلاّ بالحسنى، فإنّ الله لا يرضى بالعجب والرضى من النفس (37).

المادة الخامسة: أقبح الأعمال بيع الإنسان

يعد بيع العبيد وشراؤهم من أبغض المعاملات في الإسلام، حتى ورد في حديث عن النّبي الأكرم (ص): "شرّ الناس من باع الناس" (38).

وهذا التعبير كاف لتوضيح وجهة نظر الإسلام في شأن العبيد، ويبيّن اتجاه حركة البرامج الإسلامية، وما تريد تحقيقه والوصول إليه.

والأروع من ذلك أنّ الإسلام قد اعتبر سلب حرية البشر، وتبديلهم إلى سلعة تباع وتشترى، من الذنوب التي لا تغفر، فقد ورد في حديث عن نبيّ الإسلام الأكرم (ص): "إنّ الله تعالى غافر كلّ ذنب إلاّ من جحد مهراً، أو اغتصب أجيراً أجره، أو باع رجلاً حراً" (39).

وطبقاً لهذا الحديث فإنّ اغتصاب حقوق النساء، والعمال، وسلب حرية البشر ثلاثة ذنوب لا تغفر.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ الإسلام لم يبح الإسترقاق إلاّ في مورد أسرى الحرب، وحتى في هذا المورد لا يكون الإسترقاق إلزامياً، وكان ذلك في عصر ظهور الإسلام، غير أنّنا نرى العبودية والإسترقاق متفشيّة في الدول الغربية بعد عدّة قرون من ظهور الإسلام حيث كان المستعمرون يشنّون الحملات والهجمات الشرسة على بلدان السود، ويقبضون على البشر الأحرار ويحوّلونهم إلى رقيق يباعون ويشترون، وقد بلغ بيع وشراء العبيد حدّاً رهيباً، بحيث كان يباع في كلّ سنة (000، 200) عبداً في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر، وكانوا يأخذون مائة ألف نسمة من أفريقيا كل عام، ويرسلونهم إلى أمريكا كعبيد (40).

وخلاصة القول: إنّ الذين يعترضون على برنامج الإسلام في مسألة الرقيق قد سمعوا كلاماً لم يتأمّلوا فيه، ولم يطّلعوا الإطلاع الكافي على أصول البرنامج وهدفه، وهو "تحرير العبيد تدريجياً"، ومن دون خسائر، أو إنّهم وقعوا تحت تأثير المغرضين الذين يظنون أنّ هذه نقطة ضعف كبيرة في الإسلام، وطلبوا لها وزمروا، وسخّروا لها وسائل الإعلام، إلاّ أنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً.


1- "ضرب" مصدر مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير: اضربوا ضرب الرقاب، كما صرّحت الآية (12) من سورة الأنفال بذلك إذ قالت: (فاضربوا فوق الأعناق).

2- ينقل صاحب لسان العرب عن ابن الأعرابي أنّ: أثخن: إذا غلب وقهر.

3- كنز العرفان، المجلد 1، صفحة 365.

4- الشرائع، كتاب الجهاد. شرح اللمعة، أحكام الغنيمة.

5- "حتى" غاية ل-(فضرب الرقاب). واحتملت احتمالات أُخرى لا تستحق الإهتمام.

6- مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 98.

7- "ذلك" خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك.

8- مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 98.

9- آل عمران، الآية 169.

10- الميزان، المجلد 18، صفحة 244.

11- آل عمران، الآية 169.

12- بحار الأنوار، المجلد 100، صفحة 15.

13- المصدر السابق.

14- بحار الأنوار، المجلد 100، صفحة 14.

15- سفينة البحار، المجلد الأول، مادة شهد.

16- نهج البلاغة، الخطبة 190، آخر الخطبة.

17- سفينة البحار، المجلد الأول، مادة شهد.

18- بحار الأنوار، المجلد 71، صفحة 272.

19- التّفسير الأمثل، ذيل الآية 193 من سورة البقرة.

20- وسائل الشيعة، المجلد 11، صفحة 69.

21- يراجع فروع الكافي، المجلد 5، صفحة 35، باب الرفق بالأسير وإطعامه.

22- المصدر السابق.

23- التوبة، الآية 60.

24- كان لنا بحث مفصل حول المكاتبة وأحكامها الرائعة في ذيل الآية (34) من سورة النور.

25- بحار الأنوار، المجلد 41، صفحة 43.

26- الوسائل، المجلد 16، صفحة 32.

27- نور الثقلين، المجلد 1، ص 390.

28- وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 36.

29- المصدر السابق، صفحة 37.

30- الشرائع، كتاب العتق، وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 21.

31- الشرائع، كتاب العتق.

32- وسائل الشيعة، المجلد 16، صفحة 26.

33- الشرائع، كتاب القضاء.

34- بحار الأنوار، المجلد 74، صفحة 141، حديث 11.

35- المصدر السابق، صفحة 144، حديث 19.

36- المصدر السابق، صفحة 142، حديث 13.

37- تاريخ التمدّن، المجلد 4، صفحة 54.

38- المستدرك، المجلد 2، كتاب التجارة، باب 19، حديث 1.

39- بحار الأنوار، المجلد 103، صفحة 168، حديث 11.

40- الميزان، الجزء 6، صفحة 368.