الآيات 32 - 37

﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هـذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن نَـصِرِينَ (34) ذلِكُم بأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَـتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمـوَاتِ وَرَبِّ الاَْرْضِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِى السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)﴾

التّفسير

يوم تبدو السيئات: الآية الأولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات الله ودعوة الأنبياء، فتقول: (وإذا قيل إنّ وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إنّ نظن إلاّ ظناً وما نحن بمستيقنين).

التعبير بـ (ما ندري ما الساعة) في حين أنّ معنى القيامة لم يكن غامضاً عليهم أو مبهماً، وإن كان شك كلّ لديهم ففي وجودها، ممّا يوحي بأنّهم كانوا في موضع تكبر وعدم اهتمام، ولو كانت لدى هؤلاء روح تتبع الحق وطلبه لرأوا أنّ ماهية يوم القيامة أمر واضح، كما أنّ الدليل عليها بيّن جلي.

ومن هنا يتّضح الجواب عن سؤال طرح هنا، وهو: أنّ هؤلاء إنّ كانوا - حقاً - في شكّ الأمر، فلا تثريب عليهم ولا إثم؟ لكن الشك لم يكن ناشئاً من عدم وضوح الحق، بل ناتج عن الكبر والغرور والعناد التعصب.

ويحتمل أيضاً أن يكون هدفهم من تهافت كلامهم وتناقضه السخرية والإستهزاء.

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات المحاكم الدنيوية، فتقول: (وبد لهم سيئات ما عملوا) فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم، وتتّضح لهم، وتكون لهم قريناً دائماً يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (1).

والأشد ألماً من كلّ ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به الله الرحمن الرحيم، فيقول سبحانه: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا).

لقد ورد هذا التعبير بصيغ مختلفة في القرآن الكريم مراراً، ففي الآية (51) من سورة الأعراف: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا).

وجاء هذا المعنى أيضاً بأُسلوب آخر في الآية (14) من سورة ألم السجدة.

لاشك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى الله سبحانه الذي يحيط علمه بكلّ عالم الوجود، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الإهتمام به، ويلاحظ هذا التعبير حتى في محادثاتنا اليومية، فنقول: انسَ فلاناً الذي لا وفاء له، أي عامله كإنسان منسي، ولا تمنحه المحبة والعطف والوداد، واترك تفقد أحواله، ولا تذهب إليه أبداً.

ثمّ إنّ هذا التعبير تأكيد آخر - بصورة ضمنية - على مسألة تجسم الأعمال، وتناسب الجريمة والعقاب، لأنّ نسيانهم يوم القيامة في الدنيا يؤدي إلى أن ينساهم الله يوم القيامة، وما أعظم مصيبة نسيان الله الرحمن الرحيم لفرد من الأفراد، وحرمانه من جميع ألطافه ومننه.

وذكر المفسّرون هنا تفاسير مختلفة للنسيان تتلخص جميعاً في المعنى المذكور أعلاه، ولذلك لا نرى حاجة لتكرارها.

ثمّ إنّ المراد من نسيان لقاء يوم القيامة، نسيان لقاء كلّ المسائل والحوادث التي تقع في ذلك اليوم، سواء الحساب أم غيره، حيث كانوا ينكرونها.

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد نسيان لقاء الله سبحانه في ذلك اليوم، لأنّ يوم القيامة قد وصف في القرآن المجيد بيوم لقاء الله، والمراد منه الشهود الباطني.

وتتابع الآية الحديث، فتقول: (ومأواكم النّار) وإذا كنتم تظنون أنّ أحداً سيهب لنصرتكم وغوثكم، فاقطعوا الأمل من ذلك، واعلموا أنّه (وما لكم من ناصرين).

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ فـ (ذلكم بأنّكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا).

وأساساً فإنّ "الغرور" و"الإستهزاء" لا ينفصلان عن بعضهما عادة، فإنّ الأفراد المغرورين والمتكبرين الذين ينظرون إلى الآخرين بعين الإحتقار يتخذونهم هزواً ويسخرون منهم، ومصدر الغرور في الواقع هو متاع الدنيا وقدرتها وثروتها الزائلة المؤقتة، والتي تدع الأفراد الضيقي الصدور في غفلة تامة لا يعيرون معها لدعوة رسل الله أدنى اهتمام، ولا يكلفون أنفسهم حتى النظر فيها للوقوف على صوابها من عدمه.

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده بأُسلوب آخر، فتقول: (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) (2)، فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النّار... حيث قال هناك: ما لهم من ناصرين، وهنا يقول: لا يقبل منهم عذر، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية الله وعظمته، وقدرته وحكمته، وتذكر خمس صفات من صفات الله سبحانه في هذا الجانب، فتقول أولاً: (فلله الحمد) لأنّه (ربّ السماوات وربّ الأرض ربّ العالمين).

"الرّب" بمعنى المالك والمدبر، والحاكم والمصلح، وبناء على هذا فكلّ خير وبركة تأتي منه سبحانه ولذلك، ترجع إليه كلّ المحامد والثناء، فحتى الثناء على الورد، وصفاء العيون، وعذوبة النسيم، وجمال النجوم، حمد له وثناء عليه، فإنّها جميعاً تصدر عنه، وتنمو بفضله ورعايته.

والطريف أنّه يقول مرّة: ربّ السماوات، وأُخرى: ربّ الأرض، وثالثة: ربّ عالم الوجود والعالمين، ليفند الإعتقاد بالآلهة المتعددة التي جعلوها للموجودات المختلفة، ويدعو الجميع إلى توحيد الله سبحانه والإعتقاد بأحديته.

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية، تضيف الآية في الصفة الثالثة: (وله الكبرياء في السماوات والأرض) لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء

المترامية الأطراف، والأرض الواسعة الفضاء، وفي كلّ زاوية من زوايا العالم.

لقد كان الكلام في الآية السابقة عن مقام الربوبية، أي كونه تعالى مالكاً لأُمور عالم الوجود ومدبراً لها، والكلام هنا عن عظمته، فكلما دققنا النظر في خلق السماء والأرض وتأملناه، سنزداد معرفة بهذه الحقيقة، وتزداد بصيرتنا بها.

وأخيراً تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس: (وهو العزيز الحكيم) وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية، والتي هي مجموعة من أهم صفات الله، وأسمائه الحسنى.

ولعلها تشير إلى أن: له الحمد فاحمدوه، وهو الرب فاشكروا له، وله الكبرياء فكبروه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.

وبوصف الله سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة الله سبحانه وحكمته السامية.

اللّهمَّ، إنا نقسم عليك بكبريائك وعظمتك، وبمقام ربوبيتك، وعزتك وحكمتك، تثبت أقدامنا في طريق طاعة أوامرك.

اللّهمَّ، إنّ كلّ حمد وثناء نؤديه فبتوفيق منك، وكلّ ما لدينا من بركاتك وألطافك، فأدم اللّهمَّ هذه النعم وزدها علينا.

إلهنا: نحن غارقون في بحر إحسانك وكرمك، فوفقنا لأداء شكرك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الجاثية


1- "حاق" من مادة (حوق)، وهي في الأصل بمعنى الورود، والنّزول، والإصابة، والإحاطة. وقال البعض: إنّ أصلها (حق) - بمعنى التحقيق - فأبدلت القاف الأولى إلى واو، ثمّ إلى ألف.

2- أعطينا التوضيح اللازم حول معنى (يستعتبون) وأصلها في ذيل الآية (57) من سورة الروم.