الآيات 26 - 31

﴿قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (26) وَللهِِ مُلْكُ السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّة جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّة تُدْعَى إلى كِتَـبِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذَا كِتَـبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوْا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)﴾

التّفسير

الكلُّ جاث في محكمة العدل الإلهي:

هذه الآيات في الحقيقة جواب آخر على كلام الدهريين، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد، وقد أشير إلى كلامهم، في الآيات السابقة، فتقول الآية أوّلاً: (قل الله يحييكم ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه).

لم يكن هؤلاء يعتقدون بالله ولا باليوم الآخر، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معاً، حيث أكّدت على مسألة الحياة الأولى.

وبتعبير آخر، فإنّ هؤلاء لا يستطيعون أن ينكروا أصل وجود الحياة الأولى، ونشأة الموجودات الحية من موجودات ميتة، وهذا يشكل من جهة دليلاً على وجود عقل وعلم كلي شامل، إذ هل يمكن أن توجد الحياة على هذه الهيئة المدهشة، والتنظيم الدقيق، والأسرار العجيبة المعقدة، والصور المتعددة، والتي أذهلت عقول كلّ العلماء، من دون أن يكون لها خالق قادر عالم؟

ولهذا نرى آيات القرآن المختلفة تؤكّد على مسألة الحياة كأحد آيات التوحيد وأدلته البينة.

ومن جهة أخرى، تقول لهم: كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الأولى عاجزاً عن إعادتها ثانياً؟

أمّا التعبير بـ (لا ريب فيه) حول القيامة، والذي يخبر عن حتمية وقوعها وحدوثها، لا عن إمكانها، فهو إشارة إلى قانون العدل الإلهي، حيث لم يصل كلّ صاحب حق إلى حقّه في هذه الحياة الدنيا، ولم يلاق كلّ المعتدين والظالمين جزاءهم، ولولا محكمة القيامة العادلة، فان العدالة الإلهية لا مفهوم لها حينئذ.

ولما كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها، فإنّ الآية تضيف في النهاية: (ولكن أكثرالناس لا يعلمون).

إن أحد أسماء يوم القيامة المار ذكره في هذه الآية هو: (يوم الجمع) لأنّ جميع الخلق من الأولين والآخرين، وعلى اختلاف طبقات البشر وأصنافهم يجمعون في ذلك اليوم في مكان واحد.

وقد ورد هذا التعبير في عدّة آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً، ومن جملتها الشورى - 7، والتغابن - 9.

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الأُخرى، فتقول: (ولله ملك السماوات والأرض) فلما كان مالكاً لتمام عالم الوجود الواسع وحاكماً عليه، فمن المسلم أن يكون قادراً على إحياء الموتى، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.

لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة، ومتجراً وافر الربح إلى ذلك العالم، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) لأنّهم فقدوا رأس مالهم - وهو العمر - ولم يتجروا فيه، ولم يشتروا متاعاً إلاّ الحسرة والندم.

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الأُخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فان سريع الزوال، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة، يوم لا ينفع إلاّ القلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة بأُم أعينهم، ولات ساعة مندم.

"يخسر" من الخسران، وهو فقدان رأس المال، وينسب أحياناً إلى نفس الإنسان - كما يقول الراغب في المفردات - فيقال: خسر فلان، وأحياناً إلى تجارته فيقال: خسرت تجارته.

ومع أنّ أبناء الدنيا لا يستعملون هذا التعبير إلاّ في موارد المال والمقام والمواهب المادية، مع أنّ الأهم من الخسارة المادية هو فقدان رأس مال العقل والإيمان والثواب.

أمّا "المبطل" - من مادة "إبطال" - فلها في اللغة معان مختلفة، كإبطال الشيء، والكذب، والإستهزاء والمزاح، وطرح أمر باطل وذكره، وكلّ هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه، والذين كذبوا أنبياء الله، وسخروا من كلامهم، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً، فتقول: (وترى كلّ أمة جاثية).

يستفاد من بعض كلمات المفسّرين أنّ أصحاب الدعوى في الماضي كانوا يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين، وسيجثو الجميع يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.

ويمكن أيضاً أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أو حكم يصدر بحقّهم، لأنّ من كان على أهبة الإستعداد يجثو على الركب.

أو أنّه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه.

وجمع كلّ هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضاً.

وللجاثية معان أُخرى، من جملتها الجمع الكثير المتراكم، أو جماعة جماعة، ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي، أو جلوس كلّ أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأُمم الأُخرى.

إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ثمّ تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: (كل أُمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون) فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كلّ الحسنات والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها) (1).

وتعبير (كل أُمة تدعى إلى كتابها) يوحي بأنّ لكلّ أُمة كتاباً يتعلق بأفرادها جميعاً، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصّة بكلّ فرد، ولا يبدو هذا الأمر عجيباً إذا علمنا أنّ للإنسان نوعين من الأعمال: الأعمال الفردية، والأعمال الجماعية، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعياً جدّاً من هذه الناحية (2).

والتعبير بـ "تدعى" يوحي بأنّ هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم، وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (14) من سورة الإسراء: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).

ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أُخرى، فيقول مؤكّداً: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدقون مطلقاً أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن (إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون).

"نستنسخ" من مادة "إستنساخ"، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر، فيقال مثلاً: نسخت الشمس الظل.

ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وهنا يبدو سؤال، وهو: إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم، ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.

إلاّ أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيراً مع الآية مورد البحث، بل الملائم أحد معنيين هما: إمّا أن يكون الإستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة - كما قاله بعض المفسّرين ـ، أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره، ولذلك فقد ورد في آيات أُخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل الإستنساخ، كما نقرأ ذلك في الآية (12) من سورة يس: (إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) (3).

وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال - صحيفة الأعمال الشخصية، وصحيفة أعمال الأُمم، والكتاب الجامع العام لكلّ أفراد البشر - في ذيل الآية (12) من سورة يس.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم، حيث تنال كلّ فئة جزاء أعمالها، فتقول: (فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربّهم في رحمته).

إن ذكر "فاء التفريع" هنا دليل على أنّ نتيجة حفظ الأعمال والمحاسبة وتلك المحكمة الإلهية العادلة، هي دخول المؤمنين في رحمة الله سبحانه.

وطبقاً لهذه الآية، فإنّ الإيمان - وحده - غير كاف لأنّ يجعل المؤمنين يتنعمون بهذه الموهبة العظيمة والعطية الجزيلة، بل إنّ العمل الصالح شرط لذلك أيضاً.

والتعبير بـ "ربّهم" يحكي عن لطف الله الخاص، يكتمل بتعبير "الرحمة" بدل "الجنّة".

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول: (ذلك هو الفوز المبين).

إنّ لـ "رحمة الله" معنى واسعاً يشمل الدنيا والآخرة، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة، فتارة تطلق على مسألة الهداية، وأُخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء، وثالثة على المطر الغزير المبارك، ورابعة على نعم أُخرى كنعمة النور والظلمة، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنّة ومواهب الله سبحانه في القيامة.

جملة (ذلك الفوز المبين) تكررت مرّة أُخرى في الآية (16) من سورة الأنعام، غاية ما هناك أنّ الفوز المبين قيل هناك لأُولئك الذين ينجون من عذاب الله عزَّ وجلّ: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين) أمّا هنا فقد قيلت فيمن دخل الجنّة وفي رحمة الله، وكلاهما في الواقع فوز عظيم: النجاة من العذاب، والدخول في مستقر رحمة الله سبحانه.

وهنا قد يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ المؤمنين الذين ليس لهم عمل صالح لا يدخلون الجنّة؟

والجواب: إنّهم يدخلونها لكن بعد أن يروا جزاءهم في جهنم حتى يطهروا، فإنّ الذين يردون مستقر رحمة الله هذا بعد الحساب مباشرة هم أصحاب العمل الصالح مضافاً إلى إيمانهم، وحسب.

كلمة "الفوز" - كما يقول الراغب في مفرداته - تعني الظفر المقترن بالسلامة، وقد استعملت في 19 مورداً من آيات القرآن المجيد، فوصف الفوز مرّة بالمبين، وأُخرى بالكبير، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم.

وهو مستعمل عادة في شأن الجنّة، إلاّ أنّه استعمل في بعض الموارد في شأن التوفيق لطاعة الله ومغفرة الذنوب وأمثال ذلك.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لأُولئك السابقين، فتقول: (وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين).

وممّا يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب، أو لأنّ التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف لبيان هذا المعنى.

والنكتة الأُخرى هنا أنّه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم، بل الكلام عن التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره، وتهون معه الجحيم كلّ عذابها.

وهنا نكتة تستحق الإنتباه، وهي: أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ الله سبحانه لن يعذب أحداً من دون أن يبعث الأنبياء ويرسل الرسل وينزل آياته - أو كما يصطلح عليه تأكيد أحكام العقل بأحكام الشرع - وهذا منتهى لطفه ورحمته سبحانه.

وآخر ملاحظة هي أنّ أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله من جهة، وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أُخرى، وهذا يستفاد من جملة (وكنتم قوماً مجرمين).


1- الكهف، الآية 49.

2- احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب في الآية أعلاه، هو الكتاب السماوي الذي أنزل على تلك الأُمة. إلاّظاهر الآية يدل على أنّه صحيفة الأعمال، خاصة بملاحظة الآية التالية، وأكثر المفسّرين على ذلك أيضاً.

3- ورد في رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "إن لله ملائكة ينزلون كلّ يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم". ويقول الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية: ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونلقي ما عداه ممّا أثبته الحفظة، لأنّهم يثبتونه جميعاً.