الآيتان 58 - 59
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُرْتَقِبُونَ (59)﴾
التّفسير
ارتقب فإنهم مرتقبون!
قلنا: إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها، وما هو مبيَّن أيضاً بين البداية والنهاية هو التأكيد على مواعظ القرآن ونصحه.
تقول الآية الأولى: (فإنّما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكّرون) فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كلّ الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين، ويعلم الجاهلين، ويذكر من كان له قلب.
وقد ذكر بعض المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الآية، يكون معنى الآية طبقاً له: إنّك وإن كنت أُميّاً لم تدرس وتتعلم، لكنك تستطيع أن تقرأ بكلّ يسر وسهولة هذه الآيات العميقة الغنية المحتوى، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي.
غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
وهذه الآية - في الواقع - شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرات في سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) ؟!
لكن لما كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر الله، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة وحذرتهم فقالت: (فارتقب إنّهم مرتقبون) فانتظر ما وعدك الله بالنصر على الكفار، ولينتظروا الهزيمة والخسران... انتظر نزول عذاب الله الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي الإنتظارين هو الصحيح؟
بناء على هذا، ينبغي أنّ لا يستفاد أبداً من الآية أنّ الله سبحانه يأمر نبيّه أن يكف كلياً عن إبلاغهم رسالته، وينهي نشاطه وفعالياته وجهاده، ويكتفي بأنّ يكون منتظراً للنتيجة، وإنّما هو نوع تهديد لأُولئك المتعصبين عسى أن يستيقظوا من سباتهم، وينتبهوا من غفلتهم.
ملاحظات
1 - "ارتقب" في الأصل مأخوذة من الرقبة، ولما كان من ينتظر شيئاً يمد رقبته نحوه دائماً، فقد جاءت بمعنى انتظار الشيء ومراقبته.
2 - إنّ الآيات أعلاء تبين بوضوح أنّ القرآن الكريم لا يختص بطبقة خاصّة أو قوم معينين، بل هو لإفهام الجميع وتذكيرهم وإثارة تفكرهم، وعلى هذا، فإنّ أُولئك الذين يجعلون القرآن مجموعة من المفاهيم المبهمة الألغاز المحيرة التي لا يفهمها ولا يعلمها إلاّ طبقة خاصّة، بل وحتى هذه الطبقة لا تفهم منه شيئا ولا تدرك أبعاده، غافلون في الحقيقة عن روح القرآن.
إنّ القرآن يجب أن يحيا بين الناس ويحضر بينهم حيثما كانوا، في المدينة والقرية، في الخلاء والملأ، في المدار الإبتدائية والجامعات، في المسجد وميادين الحرب، وفي كلّ مكان يوجد فيه إنسان، لأنّ الله سبحانه قد يسَّره ليتذكر الجميع ويقتبسوا من أنواره ما يضيؤون به حياتهم.
وكذلك قضت هذه الآية ببطلان أفكار أُولئك الذين حبسوا القرآن في إطار طريقة تلاوته وقواعد تجويده وتعقيداتها، وأصبح همهم الوحيد أداء ألفاظه من مخارجها، ومراعاة آداب الوقف والوصل فتقول لهم: إنّ كلّ ذلك من أجل التذكر الذي يكون عامل حركة وباعثاً على العمل في الحياة، فإنّ رعاية ظواهر الألفاظ صحيح في محله، إلاّ أنّه ليس الهدف النهائي، بل الهدف هو فهم معاني القرآن لا ألفاظه.
3 - ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع): "لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن، وأنى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال" (1).
اللّهمَّ اجعلنا ممن يتعظ بالقرآن العظيم، ويتذكر ويتدبر فيه، ويجعل حياته في جميع أبعادها تبعاً لمفاهيمه وأحكامه.
اللّهمَّ امنحنا من ذلك الأمن الذي وهبته المتقين، فجعلتهم مطمئنين موقنين أمام عواصف الأحداث والمصاعب الجمة التي تعترضهم.
إلهنا... إنّ مواهبك لا تحصى، ورحمتك لا تحد، وعذابك أليم، وليست أعمالنا بالتي تجعلنا مؤهلين لنيل رحمتك والنجاة من عذابك.
اللّهمَّ فانشر علينا من رحمتك، وأفض علينا من فضلك الذي وعدت به المتقين من عبادك، وإلاّ فلا سبيل لنا إلى جنتك الخالدة.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة الدخان
1- تفسير روح البيان، المجلد 8، صفحة 433.