الآيات 40 - 42
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)﴾
التّفسير
يوم الفصل!
تمثل هذه الآيات في الحقيقة نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد، والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة الأُخرى.
فتستنتج الآية الأولى من هذا الإستدلال: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين).
كم هو جميل هذا التعبير عن يوم القيامة بيوم الفصل! ذلك اليوم الذي يفصل فيه الحق عن الباطل، وتمتاز صفوف المحسنين عن المسيئين، ويعتزل فيه الإنسان أعزّ أصدقائه وأقرب أخلائه... نعم، إنّه موعد كلّ المجرمين (1).
ثمّ ذكرت الآية التالية شرحاً موجزاً ليوم الفصل هذا، فقالت: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون).
أجل، ذلك اليوم هو يوم الفصل والافتراق، يوم يفارق الإنسان فيه كلّ شيء إلاّ عمله، ولا يملك المولى - بأي معنى كان، الصاحب، الولي، ولي النعمة، القريب، الجار، الناصر وأمثال ذلك - القدرة على حل أصغر مشكلة من مشاكل القيامة.
"المولى" من مادة ولاء، وهي في الأصل تعني الإتصال بين شيئين بحيث لا يوجد بينهما حاجز، وله مصاديق كثيرة وردت في كتب اللغة كمعان مختلفة، تشترك جميعاً في معناها الأصلي وجذرها (2).
في ذلك اليوم لا يجيب الرفيق رفيقه، وترى الأقارب لا يحل بعضهم مشكلة بعض، بل وتتبخر كلّ الخطط وتتقطع جميع الأواصر الدنيوية كما نقرأ هذه الصورة في الآية (46) من سورة الطور: (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون).
أمّا ما هو الفرق بين "لا يغني" وبين "لا هم ينصرون"؟ فإنّ أحسن ما يقال هو: أنّ الأوّل إشارة إلى أنّ أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة فرد آخر بصورة إنفرادية مستقلة، والثّاني إشارة إلى أنّهم عاجزون عن حل المشاكل حتى وإنْ تعاونوا فيما بينهم، لأنّ النصرة تقال في موضع يهبّ فيه شخص لمعونة آخر ومساندته حتى ينصره على المشاكل.
لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط، وهي التي أشارت إليها الآية التالية، فقالت: (إلاّ من رحم الله إنّه هو العزيز الرحيم).
لا شك أنّ هذه الرحمة الإلهية لا تُمنح اعتباطاً، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقط، وإذا كانوا قد بدر منهم زلل ومعصية، فإنّها لا تبلغ حدّاً تقطع فيه علاقتهم بالله سبحانه، فهم يرفعون أكفهم إلى الله ويرجون رحمته، فيتنعمون بها، ويرتوون منها، ويتمتعون بشفاعة أوليائه.
من هنا يتّضح أنّ نفي وجود صديق وولي ونصير في ذلك اليوم لا ينافي مسألة الشفاعة، لأنّ الشفاعة أيضاً لا تحصل إلاّ بإذن الله تعالى.
والطريف أنّ الآية قرنت وصفه سبحانه بكونه عزيزاً ورحيماً، والأوّل إشارة إلى قدرته اللامتناهية التي لا تعرف الهزيمة والضعف، والثّاني إشارة إلى رحمته التي لا حدود لها، والمهم أن تكون رحمته عين قدرته.
وقد روي في بعض روايات أهل البيت (ع) أنّ المراد من جملة: (إلاّ من رحم الله) وصي النّبي (ص) أمير المؤمنين علي (ع) وشيعته (3).
ولا يخفى أنّ الهدف منها هو بيان المصداق الواضح.
1- احتمل المفسّرون احتمالات عديدة في مرجع الضمير في (ميقاتهم) فالبعض أرجعه إلى كلّ البشر، والبعض خصوص الأقوام الذين أشير إليهم في الآيات السابقة، أي قوم تبع والعصاة من قبلهم. غير أنّ المعنى الأوّل هو الأصح.
2- لقد ذكرت للمولى معان كثيرة في اللغة، وعدها البعض سبعة وعشرين معنى: 1 - الرب 2 - العم 3 - ابن العم 4 - الابن 5 - ابن الأخت 6 - المعتِق 7 - المعتَق 8 - العبد 9 - المالك 10 - التابع 11 - المنعَم عليه 12 - الشريك 13 - الحليف 14 - الصاحب 15 - الجار 16 - النزيل 17 - الصهر 18 - القريب 19 - المنعِم 20 - الفقيد 21 - الولي 22 - الأولى بالشيء 23 - السيد غير المالك والمعتق 24 - المحبّ 25 - الناصر 26 - المتصرف في الأمر 27 - المتولي في الأمر. (الغدير، المجلد 1، صفحة 362).
3- نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 629.