الآيات 34 - 36

﴿إِنَّ هـؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (36)﴾

التّفسير

لا شيء بعد الموت!

بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهداً من حياة فرعون والفراعنة، وعاقبة كفرهم وإنكارهم، تكرر الكلام عن المشركين مرّة أُخرى، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد - والتي مرّت في بداية السورة - بصورة أُخرى، فقالت: (إنّ هؤلاء ليقولون إن هي إلاّ موتتنا الأولى) وسوف لا نعود إلى الحياة اطلاقاً (1) وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنّة والنّار لا حقيقة له، فلا حشر ولا نشر أبداً!

وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا يؤكّد المشركون على الموتة الأولى فقط، والتي تعني عدم وجود موت آخر بعد هذا الموت، في حين أنّ مرادهم نفي الحياة بعد الموت، لا إنكار الموت الثاني وبتعبير آخر فإنّ الأنبياء كانوا يخبرون بالحياة بعد الموت، لا بالموت مرة ثانية.

ونقول في الإجابة: إنّ مرادهم عدم وجود حالة أُخرى بعد الموت، أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كلّ شيء، وبعد ذلك لا توجد هناك حياة أُخرى ولا موت آخر، فكل ما هو موجود هذا الموت لا غير.

(فتأمل!) (2).

وهذا يشبه كثيراً ما ورد في الآية (29) من سورة الأنعام، حيث تقول: (وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)!

ثمّ تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين).

قال البعض: إنّ هذا كان كلام أبي جهل، حيث أنّه التفت إلى النّبي (ص) وقال: إن كنت صادقاً فابعث جدك قصي بن كلاب، فإنّه كان رجلاً صادقاً لنسأله عمّا يكون بعد الموت (3).

من البديهي أنّ كلّ ذلك كان تذرعاً، ومع أنّ سنّة الله لم تقم على أن يحيي الأموات في هذه الدنيا ليأتوا بأخبار ذلك العالم إلى هذا العالم، لكن على فرض أن يتمّ هذا العمل من قبل الرّسول الأعظم (ص)، فسيعزف هؤلاء المتذرعون نغمة جديدة، ويضربون على وتر آخر، فيسمون ذلك الفعل سحراً مثلاً، كما طلبوا المعاجز عدّة مرات، فلما أتاهم النّبي (ص) بها أنكروها أشد إنكار.

ملاحظة

عقيدة المشركين في المعاد:

لم يكن للمشركين بعامة - ومشركي العرب بخاصة - مسلك متحد في مسائلهم العقائدية، بل إنّهم كانوا متفاوتين فيما بينهم مع أنّهم يشتركون في الأصل في عقيدة الشرك.

فبعضهم لم يكن يعترف بالله ولا بالمعاد، وهم الذين يتحدث القرآن عنهم بأنّهم كانوا يقولون: (ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر) (4)

وبعضهم الآخر كانوا يعتقدون بالله عزّوجلّ، ويعتقدون أيضاً أنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله، إلاّ أنّهم كانوا ينكرون المعاد، وهم الذين كانوا يقولون: (من يحيي العظام وهي رميم) (5)، فأُولئك كانوا يحجون إلى الأصنام، ويقدمون القرابين لها، وكانوا يعتقدون بالحلال والحرام، وكان أكثر مشركي العرب من هذه الفئة.

لكن هناك شواهد تدل على أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون ببقاء الروح بشكل ما، سواء على هيئة التناسخ وانتقال الأرواح إلى الأبدان جديدة أم بشكل آخر (6).

واعتقادهم بطير اسمه (هامة) معروف، فقد ورد في قصص العرب أنّه كان من بين العرب من يعتقد بأنّ روح الإنسان طائر انبسط في جسمه، وعندما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا أو يقتل، يخرج هذا الطائر من جسمه ويدور حول جسده بصورة مرعبة، وينوح عند قبره.

وكانوا يعتقدون - أيضاً - أنّ هذا الطائر يكون صغيراً في البداية ثمّ يكبر حتى يصبح بحجم البوم، وهو يعيش دائماً في خوف واضطراب، ويسكن الديار الخالية، والخرائب، والقبور ومصارع القتلى!

وكذلك كانوا يعتقدون أنّ شخصاً إذا قتل ستصيح هامة على قبره: اسقوني فإني صدية أي عطشانة (7).

لقد أبطل الإسلام كلّ هذه المعتقدات الخرافية، ولذلك روي عن النّبي (ص) أنّه قال: "لا هامة" (8).

وعلى أية حال، فيبدو أنّ هؤلاء وإن لم يكونوا يعتقدون بالمعاد وحياة الإنسان بعد موته، إلاّ أنّهم كانوا يقولون بالتناسخ وبقاء الأرواح بشكل ما.

أمّا المعاد الجسماني على الهيئة التي يذكرها القرآن الكريم، بأنّ تراب الإنسان يجمع مرة أخرى، ويعود إلى الحياة من جديد، وأن لكلا الجسم والروح معاداً مشتركاً، فإنّهم كانوا ينكرونه تماماً، ولا ينكرونه فحسب، بل كانوا يخافونه.

وقد أوضحه لهم القرآن بأساليب مختلفة وأثبته لهم.


1- هنا اختلاف في مرجع ضمير (هي) فأرجعه بعض المفسّرين إلى (الموتة)، وهو المستفاد من سياق الكلام، وبناء على هذا يكون المعنى: ما الموتة إلاّ موتتنا الأولى (تفسير التبيان ومجمع البيان والكشاف). في حين اعتبر البعض الآخر مرجع الضمير هو العاقبة والنهاية، وعلى هذا يكون المعنى: ما عاقبة أمرنا إلاّ الموتة الأولى (روح المعاني والميزان) وليس بينهما من تفاوت كثير من ناحية النتيجة.

2- ذكر المفسّرون احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة، وتبدو جميعاً بعيدة، ومن جملتها: أنّهم فسّروا الموتة الأولى بالموت قبل الحياة في هذه الدنيا، وبناء على هذا يكون معنى الآية: إنّ الموت الذي تكون بعده حياة هو الموت الذي متنا من قبل، أمّا الموت الثّاني فلا حياة بعده أبداً.

3- مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 66، وبعض التفاسير الأُخرى.

4- الجاثية، الآية 24.

5- سورة يس، الآية 78.

6- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، المجلد 1، صفحة 117.

7- بلوغ الأرب، المجلد 2، صفحة 311.

8- المصدر السابق.