الآيات 30 - 33
﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَـهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَـلَمِينَ (32) وَآتَيْنَـهُم مِنَ الآيَـتِ مَا فِيهِ بَلـؤٌ مُبِينٌ (33)﴾
التّفسير
بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار:
كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين.
وتتحدث هذه الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: (ولقد نجيّنا بني إسرائيل من العذاب المهين) من العذاب الجسمي والروحي الشاق، والذي نفذ إلى أعماق أرواحهم... من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة والأعمال الشاقة جدّاً، وأمثال ذلك.
فكم هو مؤلم أن يكون مصير أُمة بيد هكذا عدوّ دموي شيطاني، وأن تبتلى بهكذا ظلمة لا يعرفون الرحمة ولا الإنسانية؟
نعم، لقد نجّى الله سبحانه هذه الأمّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم سفاكي الدماء في التأريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران (ع) الرّبانية، لذلك تضيف الآية (من فرعون إنّه كان عالياً من المسرفين).
ليس المراد من "عالياً" هنا علو المنزلة، بل هو إشارة إلى استشعاره العلو، وإنّما علوه في الإسراف والتعدي، كما جاء ذلك أيضاً في الآية (4) من سورة القصص (إنّ فرعون علا في الأرض) حتى أنّه ادعى الألوهية، وسمى نفسه الرب الأعلى.
و"المسرف" من مادة "إسراف"، أي كلّ تجاوز للحدود، سواء في الأقوال أم الأفعال، ولذلك استعملت كلمة المسرف في آيات القرآن المختلفة في شأن المجرمين الذين يتعدون الحدود في ظلمهم وفسادهم، وكذلك أطلقت على العصاة المسرفين، كما نقرأ ذلك في الآية (53) من سورة الزمر (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).
وتشير الآية التالية إلى نعمة أُخرى من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) إلاّ أنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.
وعلى هذا فإنّهم كانوا الأمة المختارة في عصرهم، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كلّ القرون والأعصار، لأنّ القرآن يخاطب الأمة الإسلامية بصراحة في الآية (110) من سورة آل عمران ويقول: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس).
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأراضي التي ورثها بنو إسرائيل، إذ يقول القرآن الكريم في الآية (137) من سورة الأعراف (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) في حين أنّ بني إسرائيل لم يرثوا كلّ الأرض، والمراد شرق منطقتهم وغربها.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّه كان لبني إسرائيل بعض الميزات التي كانت منحصرة فيهم على مرّ التأريخ، ومن جملتها كثرة الأنبياء، إذ لم يظهر في أي قوم هذا العدد من الأنبياء.
إلاّ أنّ هذا الكلام، إضافة إلى أنّه لا يثبت مزيتهم المطلقة هذه، فإنّه يدل على أنّها ليست مزية أساساً، فربَّما كانت كثرة الأنبياء فيهم دليلاً على غاية تمرد هؤلاء القوم وقمة عصيانهم، كما بيّنت الحوادث المختلفة بعد ظهور موسى (ع) أنّهم لم يتركوا شيئاً سيئاً لم يفعلوه ضد هذا النّبي العظيم.
وعلى أية حال، فإنّ ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية، هو المقبول من قبل كثير من المفسّرين في شأن أهلية بني إسرائيل النسبية.
غير أنّ هؤلاء القوم المعاندين كانوا يؤذون أنبياءهم دائماً - حسب ما يذكره القرآن - وكانوا يقفون أمام أحكام الله سبحانه بكلّ تصلب وعناد، بل إنّهم بمجرّد أنّ نجوا من النيل وأهواله طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها! وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الهدف من الآية ليس بيان خصيصة لبني إسرائيل، بل بيان حقيقة أُخرى.
وعليه يصبح معنى الآية: مع أننا نعلم أنّ هؤلاء سيسيئون استغلال نعم الله ومواهبه، فقد منحناهم التفوق لنختبرهم.
كما يستفاد من الآية التالية - أيضاً - أنّ الله سبحانه قد منحهم مواهب اُخرى ليبلوهم.
ولذا فإنّ هذا الاختبار الإلهي لا يدل على كونه مزية لهؤلاء، وليس هذا وحسب، بل هو ذم ضمني أيضاً، لأنّهم لم يشكروا هذه النعمة، ولم يؤدّوا حقها، ولم ينجحوا في الامتحان.
وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الأُخرى التي منحهم الله إيّاها، فتقول: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) فمرة ظللنا عليهم الغمام في صحراء سيناء، وفي وادي التيه وأُخرى أنزلنا عليهم مائدة خاصة من المن والسلوى، وثالثة أجرينا لهم العيون من الصخور الصماء، ومنحناهم أحياناً نعماً مادية ومعنوية أُخرى.
إلاّ أنّ كلّ ذلك كان لغرض الابتلاء والامتحان، لأنّ الله سبحانه يختبر قوماً بالمصيبة، وآخرين بالنعمة، كما نقرأ ذلك في الآية (168) من سورة الأعراف: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).
وربّما كان الهدف من ذكر قصة بني إسرائيل للمسلمين الأوائل، هو أنّ لا يخافوا من كثرة الأعداء وتعاظم قوّتهم، وليطمئنوا بأنّ الله الذي أهلك الفراعنة ودمرهم، وأورث بني إسرائيل ملكهم وحكومتهم، سيمنّ عليهم في القريب العاجل بمثل هذا النصر، وكما اختبر أُولئك بهذه المواهب، فإنّكم ستوضعون أيضاً في بوتقة الامتحان والاختبار، ليتّضح ماذا ستفعلون بعد الانتصار وتقلد الحكم؟
وهذا تحذير لكلّ الأُمم والأقوام فيما يتعلق بالانتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل الله ولطفه، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.