الآيات 9 - 16
﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَان مُّبِين (10) يَغْشَى النَّاسَ هَـذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثمّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)﴾
التّفسير
الدّخان القاتل:
لما كان الكلام في الآيات السابقة في أنّ هؤلاء إن كانوا طلاّب يقين، فإنّ سبل تحصيله كثيرة، وتضيف أوّل آية من هذه الآيات (بل هم في شك يلعبون) فإنّ شك هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوّتك، ليس نابعاً من كون المسألة معقدة صعبة، بل من عدم جديتهم في التعامل معها، فهم يتعاملون معها بهزل، فيستهزئون ويسخرون تارة، ويصفون أنفسهم بعدم الاطلاع والإلمام وبالجهل تارة أخرى، ويشغلون أنفسهم كل يوم بأُسلوب لعب جديد.
"يلعبون" من مادة اللعاب - على قول الراغب - و هو البزاق السائل، ولما لم يكن للإنسان هدف مهم من اللعب، فقد شبه بالبزاق الذي يبصقه الفرد لا إرادياً.
ومهما كان، فإن الحقيقة هي أن التعامل الجدي مع المسائل يعين الإنسان في معرفة الحقائق، أمّا التعامل الهازل الفارغ فإنّه يلقي الحجب عليها ويمنعه من الوصول إليها.
ثمّ انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبي (ص) فقالت: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم).
عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم، وتزول الحجب من أمام أعينهم، فيقفون على خطئهم الكبير، ويتجهون إلى الله تعالى بالقول: (ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون).
إلاّ أنّ الله عزَّوجلّ يرفض طلب هؤلاء ويقول: (أنّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) رسول كان واضحاً في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته، ومبيناً لها جميعاً.
غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم، أعرضوا عن النّبي (ص) (ثمّ تولوا عنه وقالوا معلم مجنون).
فكانوا يقولون تارة: إنّ غلاماً رومياً سمع قصص الأنبياء وأخبارهم يعلمه إياها، وهذه الآيات من اختراعه وإملائه على النّبي (ص) (ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (1) ويقولون تارة أُخرى: إنّه مصاب بالاختلال الفكري والعقلي، وهذه الكلمات وليدة فقدانه التوازن الفكري.
ثمّ تضيف الآية التالية: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) ومن هنا يتّضح أنّهم عندما يقعون في قبضة العذاب، يندمون على ما بدر منهم من أفعال، ويصممون على تعديل سلوكهم وإصلاحه، إلاّ أن هذا الموقف الجديد مؤقت وسريع الزوال، فما أن تهدأ عاصفة الأحداث حتى يعودوا لما كانوا عليه من قبل.
ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).(2)
"البطش" هو تناول الشيء بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للإِنتقام الشديد، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.
والخلاصة: أنّه على فرض تخفيف العقوبات المؤقتة في حق هؤلاء، فإن العقوبات النهائية العسيرة تنتظرهم، ولا مفرّ لهم منها.
"منتقمون" من مادة الانتقام، وكما قلنا سابقاً فإنّها تعني العقوبة والجزاء، وإن كانت كلمة الإنتقام تعطي معنى آخر في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، حيث تعني العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الإنتقام، إلاّ أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة.
ملاحظة
ما المراد من الدخان المبين؟
هناك أقوال بين المفسّرين حول المراد من الدخان الذي ذكر في هذه الآيات كتعبير عن العذاب الإِلهي، وتوجد هنا نظريتان أساسيتان:
1 - إنّه إشارة إلى العقاب والعذاب الذي ابتلي به كفار قريش في عصر النّبي (ص) لأنّه لعنهم ودعا عليهم قال: "اللهم سنين كسني يوسف".
وبعد ذلك أصاب مكّة قحط شديد، حتى أنّهم كانوا يرون كأن بين السماء والأرض عموداً من الدخان من شدة الجوع والعطش، وعسر الأمر عليهم حتى أكلوا الميتة وعظام الحيوانات الميتة.
فأتوا إلى النبي (ص) وقالوا: يا محمّد، تأمرنا بصلة الرحم وقد هلك قومك! لئن رفع عنا العذاب لنؤمنن.
فدعا النبي (ص) فارتفع العذاب وعم الخير والنعمة الوفيرة، لكنّهم لم يعتبروا بذلك، بل عادوا إلى الكفر مرة أخرى.(3)
طبقاً لهذا التّفسير فقد اعتبرت غزوة بدر هي البطشة الكبرى - أي العقوبة الشديدة - لأن المشركين تلقوا من المسلمين في بدر ضربات مهلكة ماحقة.
وطبقاً لهذا التّفسير لم يكن للدخان وجود في الحقيقة، بل إن السماء قد بدت للناس العطاشى الجائعين كعمود الدخان، وعلى هذا فذكر الدخان هنا من باب المجاز، وهو يشير إلى تلك الحالة الصعبة المؤلمة.
وقال البعض: إنّ الدخان يستعمل عادة في كلام العرب كناية عن الشر والبلاء الذي يعم ويغلب.(4)
ويعتقد بعض آخر أنّه حين القحط وقلّة المطر تغطي السماء عادة أعمدة الغبار، وقد عُبر هنا عن هذه الحالة بالدخان، لأن المطر يُنزل بالغبار إلى الأرض فيصفو الأفق.(5)
ومع كل هذه الصفات، فإنّ استعمال كلمة الدخان هنا مجازاً طبقاً لهذا التّفسير.
2 - إن المراد من "الدخان المبين" هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء في نهاية العالم، وعلى أعتاب القيامة، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا، وبداية عذاب الله أليم للظالمين والمفسدين.
عند ذلك سينتبه هؤلاء الظالمون من نوم غفلتهم، ويطلبون رفع العذاب والرجوع إلى الحياة الدنيوية العادية، لكن أيديهم ترد في أفواههم.
وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ الدخان معناه الحقيقي، ويكون مضمون هذه الآيات هو نفس ما ورد في آيات القرآن الأُخرى، وهو أنّ المجرمين والكافرين يرجون وهم على أعتاب القيامة أو فيها - رفع العذاب عنهم، والرجوع إلى الدنيا، لكن ذلك لا يقبل منهم ولا يحقق رجاؤهم.
(6)
الإِشكال الوحيد الذي يرد على هذا التّفسير أنّه لا ينسجم مع جملة (إنّا كاشفوا العذاب قليلا إنّكم عائدون) لأنّ العذاب الإِلهي لا يخفف عند انتهاء الدنيا أو في القيامة ليعود الناس إلى حالة الكفر والمعصية.
أما إذا اعتبرنا هذه الجملة قضية شرطية - وإن كان ذلك يخالف الظاهر - فسيرتفع الإشكال حينئذ، لأن معنى الآية يصبح: كلما كشفنا عنهم قليلا من العذاب فإنّهم يعودون إلى طريقتهم الأولى، وهذا في الواقع شبيه بالآية (28) من سورة الأنعام (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه).
اضافة إلى أنّ تفسير "البطشة الكبرى" بأحداث يوم بدر، يبدو بعيداً عن الصواب، لكن تفسيرها بعقوبات القيامة (7) مع الآية تماماً.
والشاهد الآخر للتفسير الثّاني هو الروايات الواردة عن النّبي الأكرم (ص) والتي تفسّر الدخان بالدخان الذي سيملا العالم على أعتاب قيام القيامة، كالرواية التي يرويها حذيفة بن اليمان عن النبي (ص) بأنّه ذكر أربع علامات لاقتراب القيامة: الأولى ظهور الدجال، والأُخرى نزول عيسى (ع)، والثالثة النّار التي تظهر من أرض عدن، والدّخان.
فسأل حذيفة: يا رسول الله، وما الدّخان؟ فتلا رسول الله (ص) (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوماً وليلة، أمّا المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأمّا الكافر فبمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" (8).
وجاء في حديث آخر عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله (ص): "إنّ ربّكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ منه المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال" (9)
وقد قدمنا توضيحاً كافياً حول دابة الأرض في ذيل الآية (82) من سورة النمل.
وروي شبيه هذا المعنى حول الدخان عن أبي سعيد الحذري عن النّبي الأكرم (ص).(10)
ويلاحظ نظير هذه التعبيرات، بصورة أكثر تفصيلا، في الروايات الواردة عن طرق أهل البيت (ع)، ومن جملتها ما نقرأه في رواية عن أمير المؤمنين علي (ع)، أن رسول الله (ص) قال: "عشر قبل الساعة لابدّ منها: السفياني، والدجال، والدخان، والدّابة، وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر".(11)
ومن مجموع ما قيل، نستنتج أن التّفسير الثّاني هو الأنسب.
1- النحل، الآية 103.
2- احتمل المفسّرون في تركيب هذه الجملة احتمالات كثيرة، وأكثرها قبولا من قبل المفسّرين، وهو المناسب أيضاً لسياق الآية: إن (يوم) متعلق بفعل (ننتقم) الذي يفهم من جملة (إنا منتقمون) وعلى هذا يكون التقدير: ننتقم منهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون.
3- مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 62، ذيل الآيات مورد البحث.
4- يقول الفخر الرازي: إنّ العرب يسمّون الشر الغالب بالدخان. المجلد 27، صفحة 242.
5- روح المعاني، المجلد 25، ص 107.
6- تراجع الآيات 27 - 30، من سورة الأنعام.
7- يقول الراغب في المفردات، البطش: هو تناول الشيء بصولة، وهو مقدمة العقوبة عادة.
8- تفسير الدر المنثور، الجزء 6، صفحة 29.
9- المصدر السابق.
10- المصدر السابق.
11- بحارالأنوار، المجلد 52، صفحة 209.