الآيات 16 - 18
﴿وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ( 16 ) اللهُ الَّذِى أَنْزَلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ( 17 ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذيِنَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ظَلَـل بَعِيد( 18 )﴾
التّفسير
لا تستعجلوا بالساعة!!
الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النّبي(ص)، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أي محاججة أو خصومة بينه وبينهم. أمّا الآيات التي نبحثها، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أن حقانية نبيّ الأسلام لا تحتاج إلى دليل، تقول: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربّهم) وبما أن نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة، بل للعناد والاصرار تقول الاية (وعليهم غضب).
(ولهم عذاب شديد) لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.
وقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المقصود من جملة: (من بعد ما استجيب لهم).
فقالوا: إنّ المقصود هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة، والذين ليست لهم نوايا خبيثة، يستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرم(ص).
وقد يكون المقصود بها استجابة دعاء الرّسول(ص) بحق معارضيه كما في يوم معركة بدر، حيث أدى ذلك إلى فناء قسم عظيم من جيش العدو وانكسار شوكته.
وأحياناً اعتبروا ذلك إشارة إلى قبول أهل الكتاب، حيث كانوا ينتظرون نبيّ الإسلام(ص) قبل ظهوره، ويذكرون علامات ظهوره للناس من خلال كتبهم، وكانوا يظهرون الإيمان والحب له، إلاّ أنّه بعد ظهور الإسلام أنكروا كلّ ذلك، لأن مصالحهم غير المشروعة أصبحت في خطر.
ويبدو أن التّفسير الأوّل هو الأفضل، لأن التّفسير الثّاني يقتضي أن تكون هذه الآيات نازلة بعد معركة بدر، في حين أنّه لا دليل على هذا الأمر، ويظهر أن جميع هذه الآيات نزلت في مكّة.
والتّفسير الثّالث لا يتلاءم مع أسلوب الآية، لأنّه يجب أن يقال: "من بعدما استجابوا له".
إضافةً إلى أن ظاهر جملة: (يحاجون في الله) يشير إلى محاججة المشركين بخصوص الخالق، وليس أهل الكتاب بالنسبة الى النّبي(ص) ولكن ما هي المواضيع المطروحة المشار إليها في هذه المحاججة الباطلة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين:
فقال البعض: إنّ المقصود هو ادعاء اليهود الذين يقولون بأن دينهم كان موجوداً قبل الإسلام وإن اسبقيته دليلٌ على افضليته.
أو، ما دمتم تدّعون الوحدة فتعالوا وآمنوا بدين موسى(ع) لأن الطرفين يقبلانه.
ولكن - كما قلناـ فإن من المستبعد أن يكون الكلام في هذه الآيات مع اليهود أو أهل اكتاب، لأن "المحاججة في الله" أكثر ما تخص المشركين، لذا فإنّ الجملة أعلاه تشير إلى الأدلة الواهية للمشركين في قبولهم بالشرك، والتي منها شفاعة الأصنام أو اتباع دين الآباء والأجداد.
على أية حال، فالمعاندون الذين يصرون على عنادهم بعد وضوح الحق، سيفتضح أمرهم بين خلق الله، وسيشملهم غضب الخالق في هذا العالم والعالم الآخر.
ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي، حيث تقول الآية: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان).
"الحق" كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والإجتماعية، وما شابه ذلك، لأن الحق هو الشيء الموجود الذي يطابق مصداقه الخارجي، وليس له جنبة ذهنية وخيالية.
وأمّا "الميزان" فله معنى عام في مثل هذه الموارد، بالرغم من أن معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن، إلاّ أنّه في معناه الكنائي يطلق على أي معيار للقياس والقانون الإلهي الصحيح، وحتى شخص الرّسول(ص) والأئمّة(عليهم السلام)، حيث أن وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.
بناءً على هذا فإنّ الخالق أنزل كتاباً على نبيّ الإسلام(ص) بحيث يعتبر هو الحق، والميزان للتقييم، والتدقيق في محتوى هذا الكتاب سواء معارفه وعقائده، واستدلالاته المنطقية، أو قوانينه الإجتماعية، وحتى برامجه لتهذيب النفوس وتكامل البشر... كلّ ذلك يعتبر دليلا على حقانيته.
إنّ هذا المحتوى العظيم - بهذا العمق - من شخص أُمّي لا يعرف القراءة والكتابة، وقد نشاً في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات تخلفاً، يعتبر بحدّ ذاته دليلا على عظمة الخالق، ووجود عالم ما وراء الطبيعة، وحقانية من جاءبه.
وهكذا فإنّ الجملة أعلاه تعتبر جواباً للمشركين ولأهل الكتاب.
وبما أن نتيجة كلّ هذه الأمور، خاصة ظهور الحق بشكل كامل والعدالة والميزان تتّضح في يوم القيامة، لذا فإن الآية تقول في نهايتها: (وما يدريك لعل الساعة قريب).
فالقيامة عندما تقام يحضر الجميع في محكمة عدله، ويواجهون الميزان الذي يقيس حتى حبّة الخردل أو أصغر منها.
ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة، فتقول الآية: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها).
فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب أبداً، إنّ كلامهم هذا من قبيل الإستهزاء والإنكار، ولو كانوا يعلمون ما سيحل عليهم يوم القيامة لم يطلبوا مثل هذا الأمر.
(والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنّها الحق)(1).
طبعاً لحظة قيام القيامة خافية على الجميع، حتى بالنسبة للأنبياء المرسلين والملائكة المقربين، ليكون هذا الأمر أسلوباً تربوياً مستمراً للمؤمنين، واختباراً واتمام حجة للمنكرين، ولكن لا يوجد أي شك في أصل وقوعها.
ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة في احتمالهم حصول هذا الأمر في أية لحظة من اللحظات.
وكإعلان عام، تقول الآية في نهايتها: (ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) لأن نظام هذا العالم يعتبر - بحد ذاته - دليلا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثاً وليس له أي معنى، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.
وتشير عبارة (ضلال بعيد) إلى أن الإنسان قد يضل الطريق أحياناً، إلاّ أنّه لا يبتعد عنه كثيراً، وبقليل من البحث والجهد يمكنه أن يكتشف الطريق وأحياناً يكون البعد كبيراً جداً بحيث يصعب - أو يستحيل - عليه العثور على الطريق مرّة اُخرى.
والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(ص): "سأل رجل رسول الله في إحدى سفراته وبصوت مرتفع: يا محمّد...، فأجابه الرّسول(ص)وبصوت مرتفع مثل صوته "ما تقول؟".
قال الرجل: متى الساعة؟
قال الرّسول(ص): "إنّها كائنة فما اعددت لها؟".
قال الرجل: حبّ الله و رسوله!
قال الرّسول(ص): "أنت مع من أحببت"(2).
1- الآية 27 ـ نفس هذه السورة.
2- مصطلح (حرث) كما يقول الراغب في مفرداته: تعني في الأصل: رمي البذر في الأرض وتهيئتها للزراعة، وفي القرآن الكريم استخدمت عدّة مرّات بهذا المعنى، ولكن لا يعلم سبب اعتبار بعض المفسّرين أنّها تعني (العمل والكسب).