الآيات 56 - 59
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَـن أَتَـهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـلِغِيهِ فَاسْتَعِْذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( 56 ) لَخَلْقُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( 57 ) وَمَا يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَلاَ الْمُسِىءُ قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ( 58 ) إِنَّ السَّاعَةَ لاََتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤمِنُونَ( 59 )﴾
التّفسير
ما يستوي الأعمى والبصير!
دعت الآيات السابقة رسول الله(ص) إلى الصبر والإستقامة أمام المعارضين وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية، والآيات التي نحن بصددهاتذكر سبب مجادلتهم للحق.
يقول تعالى: (إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلأكبر).
"المجادلة" - كما أشرنا سابقاًـ تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير منطقية، وإن كانت تشمل أحياناً في معناها الواسع الحق و الباطل.
أما قوله تعالى: (بغير سلطان أتاهم) فهي للتأكيد على ما يستفاد من معنى المجادلة حيث تعني "سلطان" الدليل والبرهان الذي يكون سبباً لهيمنة الإنسان على خصمه.
أما "آتاهم"فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى الله بها إلى أنبيائه عليهم السلام، ولا ريب أنّ الوحي هو أفضل الطرق وأكثرها اطمئناناً لإثبات الحقائق.
أما المقصود بـ "آيات الله" التي كانوا يجادلون فيها، فهي معجزات وآيات القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد، حيث كانوا يعتبرونها سحراً، أو أنّها علامات الجنون، أو أساطير الأولين!
من ذلك يتبيّن أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى التعالي والغرور والتكبر عن الإنصياع إلى الحق، لذلك كانوا يرونَ أنّ أفكار الآخرين وعقائدهم باطلة وأن عقائدهم وأفكارهم حقّة!
تشير كلمة (إن) إلى أنّ السبب الوحيد لعنادهم في هذه الموارد هو الغرور والتكبّر، وإلاّ كيف يصرّ الإنسان على كلامه وموقفه دون دليل أو برهان.
"الصدور" تشير هنا إلى القلوب، والمقصود بالقلب هو الفكر والروح، حيث ورد هذا المعنى مرّات عدّة في آيات الكتاب المبين.
أمّا كلمة (كبر) في الآية فقد فسّرها بعض المفسّرين بالحسد.
وبذلك اعتبر هؤلاء أن سبب مجادلتهم لرسول الله(ص) هو حسدهم له ولمنزلته ومقامه المعنوي الظاهري.
لكن "كبر" لا تعني في اللغة المعنى الآنف الذكر، لكنّه يمكن أن يلازمها، لأنّ من يتكبّر يحسد، إذ لا يرى المتكبّر المواهب إلاّ لنفسه، ويتألم إذا انصرفت لغيره حسداً منه وجهلا.
ثم تضيف الآية: (ما هم ببالغيه).
إنّ هدفهم أن يروا أنفسهم كباراً، يفاخرون بذلك و يفتخرون على غيرهم، لكنّهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران، ولن يصلوا بطريق التكبر والغرور والعلو و المجادلة بالباطل إلى ما يبتغونه(1).
في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول الله(ص) بأن يستعيذ بالله من شر هؤلاء المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم، حيث يقول تعالى: (فاستعذ بالله إنّه هو السميع البصير).
فهو - تعالى - يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية، وينظر إلى مؤامراتهم وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.
والاستعاذة بالله لا تنبغي لرسول الله (ص) وحده وحسب، وإنّما تجب على كل السائرين في طريق الحق عندما تتعاظم الحوداث ويستعر الصدام مع المتكبرين عديمي المنطق!
لذلك نرى استعاذة يوسف (ع) عندما تواجهه العاصفة الشديدة المتمثلة بشهوة "زليخا" يقول: (معاذ الله إنّه ربي أحسن مثواي) فكيف أخون عزيز مصر الذي أكرمني وأحسن وفادتي.
وفي آيات سابقة من نفس هذه السورة نقرأ أنّ كليم الله موسى (ع) قال: (إني عذت بربي و ربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)(2).
إنّ قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته، تعتبر من أكثر القضايا التي يجادل فيها الكفار، ويعاندون بها رسول الله(ص) لذلك تنتقل الآية التالية إلى التذكير بهذه القضية، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر، إذ يقول تعالى: (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
إنّ خالق هذه المجرّات العظيمة ومدبّرها يستطيع - بصورة أولى - أن يحيي الموتى، وإلاّ كيف يتسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟
إنّ هذا المنطق يعبّر عن جهل هؤلاء الذين لا يستطيعون إدراك هذه الحقائق الكبرى!
أغلب المفسّرين اعتبر هذه الآية ردّاً على مجادلة المشركين بشأن قضية المعاد، بينما احتمل البعض أنّها رد على كبر المتكبرين والمغرورين الذين كانوا يتصورون أن ذواتهم وأفكارهم عظيمة غير قابلة للردّ أو النقض، في حين آنها تافهة بالقياس إلى عظمة عالم الوجود(3).
هذا المعنى غير مستبعد، ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار الآيات التي بعدها يكون المعنى الأوّل أفضل.
لقد تضمنت الآية الكريمة سبباً آخر من أسباب المجادلة متمثلا بـ "الجهل" في حين طرحت الآيات السابقة عامل "الكبر". والعاملان يرتبطان مع بعضهما، لأن أصل وأساس "الكبر" هو "الجهل" وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره، ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.
الآية التي بعدها، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال المتكبرين الجهلة إزاء المؤمنين الواعين، حيث يقول: (وما يستوي الأعملى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء)(4).
إلاّ أنكم بسبب جهلكم وتكبركم: (قليلا ما تتذكرون)(5).
إنّ المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم، وبذلك فهم يعرفون قدر أنفسهم و معرفتهم وموقعهم، إلاّ أنّ الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به. لذلك فهو يخطىء دائماً في تقييم أبعاد وجوده، ويصاب بالكبر و الغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح وسىّء.
ونستفيد أيضاً من خلال ارتباط الجملتين ببعضهما البعض أنّ الإيمان والعمل الصالح ينوّر بصائر القلب والفكر بنور المعرفة والتواضع والإستقرار، بعكس الكفر والعمل الطالح الذي يجعل الإنسان أعمى فاقداً لبصيرته، مشوّهاً في رؤيته للأشياء والمقاييس.
الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرض إلى وقوع القيامة و قيام الساعة حيث يقول تعالى: (إنّ الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) "إن" و "اللام" في (لاتية) و جملة (لا ريب فيها) كلها للتأكيد المكرّر الذي يستهدف تأكيد المضمون والمعنى المراد، وهو قيام القيامة.
لقد عالجت الرؤية القرآنية قضية القيامة في أكثر من مكان ومورد، بمختلف الأدلة ووسائل الإقناع، ذلك نرى بعض الآيات تذكر قيام الساعة والقيامة بدون مقدمات أو دليل، مكتفية بما ورد من أدلة ومقدمات في أماكن اُخرى من الكتاب المبين .
"الساعة" كما يقول "الراغب" في "المفردات" هي بمعنى: أجزاء من أجزء الزمان.
إنَّ الإشارة التي يطويها هذا الإستخدام لكلمة (الساعة) يشير إلى السرعة الّتي يتم فيها محاسبة الناس هناك.
لقد استخدمت الكلمة عشرات المرّات في القرآن الكريم، لتدل بشكل عام على المعنى الآنف الذكر، لكنّها تعني في بعض الأحيان نفس القيامة، فيما تعني في أحيان اُخرى الإشارة إلى انتهاء العالم ومقدمات البعث والنشور. وبسبب من الإرتباط القائم بين الحدثين والقضيتين، وأنّ كلاهما يحدث بشكل مفاجىء، لذا تمّ استخدام كلمة "الساعة". (يمكن للقارىء الكريم أن يعود إلى بحث مفصل حول "الساعة" في تفسير سورة الروم).
أما سبب القول: بـ (ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون) فلا يعود إلى أن قيام القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة، بل ثمّة ميل في الإنسان نحو "الحرية" في الإستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذات الدنيا وشهواتها، بالإضافة إلى الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة، ويغفل عن التفكير بالقيامة، أو الإستعداد لها.
ملاحظه
اليهود المغرورون:
لقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الأولى - من مجموعة الآيات التي بين أيديناـ بحثاً مفاده أن اليهود كانوا يقولون: سيخرج المسيح الدجال فنعينه على محمّد وأصحابه ونستريح منهم، ونعيد الملك إلينا (مجمع البيان - الجزء الثامن - صفحة (822) طبعة دار المعرفة).
يمكن أن يشمل هذا السبب فيما يتضمّن من ادعاءات اليهود معنيين: الأول: أنّهم أرادوا أن ينتصر المسيح على الدّجال، من خلال ادعائهم أنّ "المسيح المنتظر" هو منهم وتطبيق الدجّال، والعياذ بالله، على النّبي الأكرم (ص).
أو أنّهم كانوا حقاً في انتظار الدجّال الذي كانوا يعتبرونه من أنفسهم.
ذلك أنّ المسيح وكما ذكر "الراغب" في "المفردات" وابن منظور في "لسان العرب" تطلق على "عيسى"(ع) بسبب سيره وسياحته في الأرض، أو بسبب شفائه للمرضى بأمر الله عندما كان يمسح بيده عليهم. وكانت تطلق أيضاً على "الدجال" لأنّ الدجال له عين واحدة، بينما كان مكان العين الأُخرى ممسوحاً.
ويحتمل أن يكون اليهود ينتظرون خروج الدجال ليتعاونوا معه في دحر المسلمين الذين هزموهم مرات عديدة ممّا أثار غضبهم على رسول الله(ص).
وقد يكونوا في انتظار المسيح، كما يستفاد من قاموس الكتاب المقدس حيث يظهر أنّ المسيحيين واليهود ينتظرون خروج المسيح، لأنّهم يعتقدون بأنّ المسيح سيحارب الدجال ويقضي عليه. لذلك أرادوا تطبيق هذا المعنى على ظهور الإسلام.
وقد استنتج بعض المفسّرين من سبب نزول هذه الآية على أنّها مدنية دون غيرها من آيات السورة المكية. ولكن عدم ثبوت سبب النّزول، كما أن عدم وضوح مفاد الآية وإبهامها تستوجب ضعف هذا الإستنتاج.
1- النظرة الأولية في الآية قد لا توجب معنى لـ "لا النافية" في قوله تعالى: (ولا المسيء) ولكن تأكيد النفي من ناحية، وتجلية المقصود من الجملة من ناحية ثانية، أوجب تكرار النفي، مضافاً إلى أن طول الجملة قد يؤدي إلى نسيان الإنسان للنفي الأول، الأمر الذي يوجب التكرار.
2- "ما" في قوله تعالى: (قليلا ما تتذكرون) زائدة، وهي للتأكيد.
3- داخر من "دخور" وتعني الذلة، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبّر والإستعلاء.
4- مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 528.
5- مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 529.