الآيات 65 - 67

﴿وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـسِرِينَ( 65 ) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنَ الشَّـكِرِينَ( 66 ) وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَالسَّـمَوتُ مَطْوِيَّـتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( 67 )﴾

التّفسير

الشرك محبط للاعمال:

آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضاً.

الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك، وتقول:

(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين).

وبهذا الترتيب، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين، تشملان حتى أنبياء الله في مالو أصبحوا مشركين - على فرض المحال - النتيجة الأولى: إحباط الأعمال، والثانية: الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة، وذلك بعد كفره وشركه بالله، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد، ولا يقبل أي عمل بدون هذا الاعتقاد.

فالشرك هو النّار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان.

والشرك هو الصاعقة التي تهلك كلّ ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته.

والشرك هو عاصفة هوجاء تدمر كلّ أعمال الإنسان وتأخذها معها، كما ورد في الآية (18) من سورة إبراهيم (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد إشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون ممّا كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد).

لذا ورد في حديث عن رسول الله (ص): "إن الله تعالى يحاسب كلّ خلق إلاّ من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب و يؤمر به إلى النّار"(1).

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟

الجواب على هذا السؤال واضح، وهو أنّ الأنبياء لم يشركوا قطّ، مع أنّهم يمتلكون القدرة والإختيار الكاملين في هذا الأمر، ومعصوميتهم لا تعني سلب القدرة والإختيار منهم، إلاّ أنّ علمهم الغزير وإرتباطهم المباشر والمستمر مع الباريء عزّوجلّ يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك، فهل يمكن أن ينتاول السمّ طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة السامة والخطرة، وهو في حالة طبيعية؟!

الهدف هو إطلاع الجميع على خطر الشرك، فعندما يخاطب الباريء عزّوجلّ أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة، فعلى الأمة أن تحسب حسابها، هذا الأسلوب من قبيل ما نصّ عليه المثل المعروف (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).

ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أثناء إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون، إذ قال: يابن رسول الله أليس من قولك أن الإنبياء معصومون؟ قال (ع): "بلى" قال: فما معنى قول الله إلى أن قال: فأخبرني عن قول الله: (عفى الله عنك لم أذنت لهم).

قال الرضا(ع): "هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد به أمته" وكذلك قوله: (لئن اشركت ليحبطن عملك ... ) وقوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا) قال: صدقت يابن رسول الله(2).

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)(3).

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد، ثمّ تأمر الآية بالشكر، لأن الشكر على النعم التي أُغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله، ونفي كلّ أشكال الشرك، فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان، وقبل الشكر يجب معرفة المنعم، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد، وينكشف بطلان عبادة الاصنام التي لا تهب للانسان آية نعمة .

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول: (وما قدروا الله حق قدره). ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للاوثان!!

نعم، فمصدر الشرك هو عدم معرفة الباريء عزّوجلّ بصورة صحيحة، فالذي يعلم:

أوّلا: أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.

وثانياً: أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها.

وثالثاً: أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل، وأنّ الأرزاق بيده، وحتى الشفاعة إنّما تتمّ بإذنه وأمره، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله.

وأساساً فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.

ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباريء عزّوجلّ، إذ يقول كلام الله المجيد: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه).

"القبضة": الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم - عادة - للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الإصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.

"مطويات": من مادة (طي) وتعني الثني، والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شيء ما.

والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية (104) من سورة الأنبياء (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب).

فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر.

خلاصة الكلام، أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟

الجواب: إنّ قدرة الباريء عزّوجلّ تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هو من عند الله وتحت تصرفه. إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أُولئك سينقذونه يوم القيامة، كما فعل المسيحيون، إذ أنّهم يعبدون عيسى(ع)متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة، وطبقاً لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة الباريء عزّوجلّ في يوم القيامة.

ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة، ولا يرد إمكانية تجسيم الباريء عزّوجلّ من خلالها، إلاّ إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّاً، حيث نفتقد ألفاظاً تبيّن مقام عظمة الباريء عزّوجلّ بصورة واضحة، إذن فيجب الإستفادة بأقصى مايمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة.

على أية حال، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً، يعطي الباريء عزّوجلّ في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية، إذ يقول: (سبحانه وتعالى عما يشركون).

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

ملاحظتان

1 - مسألة إحباط الأعمال

هل يمكن حقّاً أن تحبط الأعمال الصالحة للإنسان بسبب أعمال سيئة يرتكبها؟ وهل أنّ هذه المسألة لا تتعارض مع عدالة الباريء عزّوجلّ من جهة، ومع ظواهر الآيات التي تقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)؟.

البحث في هذه المسألة طويل وعريض سواء من حيث الادلة العقلية أو النقلية، وقد أوردنا جزءاً منه في ذيل الآية (217) من سورة البقرة، وسندكره في نهاية بعض الآيات التي تتناسب مع الموضوع في المجلدات القادمة ان شاء الله.

وممّا تجب الإشارة إليه هنا هو: إذا كان هناك شك في مسألة (إحباط الأعمال) بسبب المعاصي، فإنّه لا ينبغي أن يشكّ أبداً في تأثير الشرك على إحباط الأعمال، لأن آيات كثيرة في القرآن المجيد أشير إلى بعضها آنفاً - تقول وبصراحة (إنّ الوفاة على الإيمان) هي شرط قبول الأعمال، وبدونها لا يقبل من الإنسان أي عمل.

فقلب المشرك كالأرض السبخة التي مهما بذرت فيها أنواع بذور الورد، ومهما هطل عليها المطر الذي هو مصدر الحياة، فإن تلك البذور سوف لن تنبت أبداً.

2 - هل عرف المؤمنون الله؟

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ المشركين لم يعرفوا الله حق معرفته، إذ أنّهم لو عرفوه لما ساروا في طريق الشرك ومعنى هذا الكلام أن المؤمنين الموحدين هم وحدهم الذين عرفوا الله حق معرفته.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: كيف يتلاءم هذا الكلام مع الحديث المشهور لرسول الله(ص) والذي يقول فيه: "ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك".

وللجواب على هذا السؤال يجب القول: إنّ للمعرفة مراحل، أعلاها هي تلك المعرفة التي تخص ذات الله المقدسة، والتي لا يمكن لأي أحد أن يعرفها أو يطلع عليها غير ذاته المقدسة التي تعرف كنه ذاته المقدسة، والحديث الشريف المذكور يشير إلى هذا المعنى.

أمّا بقية المراحل التي تأتي بعد هذه المرحلة والتي يمكن للعقل البشري أن يتعرف عليها، هي مرحلة معرفة صفات الله بصورة عامة ومعرفة أفعاله بصورة مفصلة، وهذه المرحلة كما ذكرنا ممكنة بالنسبة للإنسان، والمراد من معرفة الله الوصول إلى هذه المرحلة، والآية مورد بحثنا تحدثت عن هذه المرحلة، حيث أن المشركين يجهلون هذا المقدار من المعرفة أيضاً.


1- (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل، وقال البعض: إنّها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابداً فاعبد الله) ، ثمّ حذف الشرط، وقدم المفعول مكانه .

2- الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي: (الكهف ـ 99) و (المؤمنون ـ (101)، (يس ـ 51)، (الزمر ـ 68)، (ق ـ 20)، (الحاقة ـ 13)، (الأنعام ـ 73)، (طه ـ 102)، (النمل ـ 87)، (النبأ ـ 18).

3- المدثر، الآية 8.