الآيات 53 - 55
﴿قُلْ يَـعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( 53 ) وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ( 54 ) وَ اتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَهً وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ( 55 )﴾
التّفسير
إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً (عليهم السلام)
بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين والظالمين، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل، لأنّ الهدف الرئيسي من كلّ هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباريء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم، عندما يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً).
التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنّها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين أسرفوا..."(1).
والدليل على ذلك واضح من وجوه:
1 - التعبير بـ (يا عبادي) هي بداية لطف الباريء عزّوجلّ.
2 - التعبير بـ (إسراف)بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر.
3 - التعبير بـ (على أنفسهم) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّهاعليه، وهذا التعبير هو علامة اُخرى من علامات محبّة الله لعباده، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده، عندما يقول: لا تظلم نفسك أكثر من هذا!
4 - التعبير بـ (لا تقنطوا)مع الأخذ بنظر الاعتبار أن "القنوط" يعني - في الأصل - اليأس من الخير، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي.
5 - عبارة (من رحمة الله) التي وردت بعد عبارة (لا تقنطوا) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة.
6 - عندما نصل إلى عبارة (إنّ الله يغفر الذنوب) التي بدأت بتأكيد، وكلمة "الذنوب" التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية.
7 - إنّ ورود كلمة (جميعاً) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل.
8 و 9 - وصف الباريء عزّوجلّ بالغفور والرحيم في آخر الآية، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل.
نعم، لهذا السبب فإنّ الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن المجيد، حيث تعطي الأمل بغفران كلّ أنواع الذنوب، ولهذا السبب فإنّها تبعث الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية. وحقّاً، فإنّ الذي لانهاية لبحر لطفه، وشعاع فيضه غير محدود، لا يتوقع منه أقل من ذلك.
وقد شغلت أذهان المفسّرين مسألتان، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية والآية التي تليها:
الأولى: هل أنّ عمومية الآية تشمل كّل الذنوب حتّى الشرك والذنوب الكبيرة الأُخرى، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (48) من سورة النساء: إنّ الشرك من الذنوب التي لا تغتفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
والثّانية: هل أنّ الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط بالتوبة ونظير ذلك؟
وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني، والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة، لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء (انيبوا إلى ربّكم) والثّانية (وأسلموا له) والثّالثة (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم).
هذه الأوامر الثّلاثة تقول: إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب، ويتوجهوا في مسيرهم نحو الباريء عزّوجلّ، ويستسلموا لأوامره، ويظهروا صدق توبتهم وأنابتهم بالعمل، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة ولا غيره، وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط لا يمكن تجاهلها.
وإذا كانت الآية (48) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو والرحمة، فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم، وليس أُولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله، لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك، أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي.
اذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير، نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحاً أمامهم، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره، ويتسألون: هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر؟
إنّهم يدركون معنى الآية جيداً، ومستعدون للتوبة،ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم، خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى إرتكاب الذنب مرّة اُخرى.
هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم. لذا فإنّ (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداء(ع)، كان خائفاً من عدم قبول توبته، لأنّ ذنبه كان عظيماً، مجموعة من المفسّرين قالوا: إن هذه الآية عندما نزلت على الرّسول الأكرم(ص) فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!
ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية، لأن هذه السورة من السور المكّية، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات، ولم تكن أيضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي، وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق، وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى.
يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره (روح المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطاً بشيء غير صحيح، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة، لأنّ فيها تعارضاً واضحاً مع الآيات التالية، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطاً، بقرائن الآيات التالية، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: (وانيبوا إلى ربّكم) واصلحوا أُموركم ومسير حياتكم (واسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون).
بعد طي هاتين المرحلتين "الإنابة" و "التسليم"، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).
وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث:
الخطوة الأُولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.
الخطوة الثّانية: الإيمان بالله والإستسلام له.
الخطوة الثّالثة: العمل الصالح.
فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقأ لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.
أمّا بشأن المراد من (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء عزّوجلّ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ، والبعض الآخر مباح، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات والمستحبات، مع الإنتباه إلى تدرّجها.
وقال البعض: إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة، بدليل ما ورد في الآية (23) من هذه السورة الزمر (الله أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني). وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين.
بحثان
1 - باب التوبة مفتوح للجميع
من المشاكل التي تقف عائقاً في طريق بعض المسائل التربوبة، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.
هذا التفكير يبقى كابوساً مخفياً يرافقه كالظل، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة؟ فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته... والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيداً ما ذكرناه، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.
التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عندما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للإنفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين التائبين، حيث ورد (كمن ولدته أُمه).
وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفاً التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.
ونقراً في رواية وردت عن رسول الله (ص): "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(2).
كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر(ع)جاء فيه: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزىء"(3).
ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط، لأنّ الباريء عزّوجلّ حكيم ولا يفعل شيئاً عبثاً، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لابدّ منه.
ومن جهة اُخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة، وأن تحدث انقلاباً وتغيراً في داخله وذاته.
ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء اُسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب.
ومن ناحية ثالثة، يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).
2 - اصحاب الأحمال الثقيلة
بعض المفسّرين أوردوا أسباباً متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول.
ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد، عندما قتل حمزة عمّ النّبي (ص) غدراً، وقد كان حمزة قائداً شجاعاً كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اُخرى: إنّه كان درعاً للرسول (ص). فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدئهم، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي، ولكنّه كان خائفاً من عدم قبول إسلامه، ولما أسلم قال له النّبي (ص): "أوحشي؟" قال: نعم، قال: "أخبرني كيف قتلت عمي" فأخبره، فبكى(ص)، وقال: "غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك" فلحق بالشام فمات في الخمر(4). وهنا تساءل أحدهم: هل أن هذه الآية تخص وحشياً فقط أم تشمل كلّ المسلمين، فأجاب رسول الله(ص): إنّها تشمل الجميع .
ومنها قصة النباش - قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكياً فسلّم فردّ ع ثمّ قال: "ما يبكيك، يا معاذ؟" فقال: يا رسول الله، إنّ بالباب شاباً طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.
فقال النّبي (ص): "ادخل عليّ الشاب يا معاذ" فأدخله عليه فسلم فردّ ع قال: "ما يبكيك يا شاب؟"
قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً، إن أخذني الله عزّوجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلاّ سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.
فقال رسول الله (ص): "هل أشركت بالله شيئاً؟".
قال: أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئاً.
قال: "أقتلت النفس التي حرّم الله؟".
قال: لا.
فقال النّبي(ص): "يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الجبال الرواسي".
فقال الشاب: فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ.
فقال النّبي(ص): "يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق".
قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيه من الخلق.
فقال النّبي(ص): "يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي".
قال: فإنّها أعظم من ذلك.
قال: فنظر النّبي(ص) إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: "ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟".
فخّر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم.
فقال النّبي(ص): "فهل يغفر الذنب العظيم إلاّ الربّ العظيم".
قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبي(ص): "ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟".
قال: بلى، أخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت منصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي... ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فاذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين،... فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبداً فما ترى يا رسول الله.
فقال النّبي(ص): تنحى عنّي يا فاسق; إنّي أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النّار!... فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّداً فيها، ولبس مسحاً وغل يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول... ثمّ قال: اللّهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك، وإن لم تستجب لي دعائي... فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه(ص) (والذين إذا فعلوا فاحشة...)(5).
الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول، و إنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الإنتباه أكثر، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اُخرى: إن مثل أُولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوباً ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضى.
وقد ذكر "الفخر الرازي" أسباباً اُخرى لنزول هذه الآيات إذ قال: إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا: يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!(6).
1- أصول الكافي، المجلد 2، الصفحة 216، باب التوبة، الحديث 10.
2- سفينة البحار، المجلد 2، الصفحة 637، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4; وتفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 493.
3- بحار الأنوار، المجلد 6، الصفحة 24 (طبع بيروت).
4- التّفسير الكبير لفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4 ذيل آيات البحث.
5- في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذراً أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا) . (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل، (إنّي كنت من الساخرين) .
6- رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته،ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان، وقد قال البعض: إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث.