الآيات 41 - 44
﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَآ أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل( 41 ) اللهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَل مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ( 42 ) أَمِ اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَعْقِلُونَ( 43 ) قُلْ ِللهِ الشَّفَـعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَ الاَْرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 44 )﴾
التّفسير
الله سبحانه يتوفى الأنفس:
بعد ذكر دلائل التوحيد، و بيان مصير المشركين والموحدين، تبيّن الآية الأُولى - في هذا البحث - حقيقة مفادها أن قبول ما جاء في كتاب الله أو عدم قبوله إنّما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول الله(ص) يصرّ عليكم في هذا المجال، فإنّه لم يكن يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، و إنّما كان يؤدي واجباً إلهياً، (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحقّ)(1).
وتضيف الآية (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها).
على أية حال، فإنك لست مكلفاً بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط (وما أنت عليهم بوكيل).
هذه القاعده بأنّ كلّ من اتبع طريق الحق عاد بالربح على نفسه، ومن اتبع سبيل الضلال عاد بالخسارة على نفسه، تكررت عدّة مرات في آيات القرآن الكريم، كما أنّها تأكيد على حقيقة أنّ الله غير محتاج لإيمان عباده ولا يخاف من كفرهم ،وكذلك رسوله، وإنّه لم يدع عباده إلى عبادته كي يجني من وراء ذلك الأرباح، وإنّما ليجود على عباده.
قو له تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل) - التي وردت فيها كلمة (وكيل) بمعنى الشخص المكلف بهداية الضالين وجعلهم يؤمنون بالله - وردت عدّة مرات في آيات القرآن، وبنفس التعبير أو ما يشابهه، والغرض من تكرارها هو بيان أنّ الرّسول الأكرم (ص) ليس مسؤولا عن إيمان الناس، لأنّ أساس الإيمان لا يأتي عن طريق الإجبار، وإنّه مكلّف بإبلاغ الأمر الإلهي إلى الناس من دون أن يظهر أدنى تقصير أو عجز، فإمّا أن يستجيبوا لدعوته وإمّا أن يرفضوها.
ثمّ لتوضح أنّ الحياة والموت وكلّ شؤون الإنسان هي بيدالله سبحانه وتعالى، قالت الآية: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)(2).
وبهذا الشكل فإن (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة، أي (أشكال الموت)، لأن العلاقة بين الروح والجسد تصل إلى أدنى درجاتها أثناء النوم، وتقطع الكثير من العلاقات والوشائج بينهما.
وتضيف الآية (فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى) نعم (إنّ ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
من هذه الآية يمكن استنتاج عدة أُمور:
1 - إنّ الإنسان عبارة عن روح وجسد، والروح هي جوهر غير مادي، يرتبط بالجسد فيبعث فيه النور والحياة.
2 - عند الموت يقطع الله العلاقة بين الروح والجسد، ويذهب بالروح إلى عالم الأرواح، وعند النوم يخرج الباريء عزّوجلّ الروح والجسد، ولكن ليس بتلك الحالة التي تقطع فيها العلاقات بصورة كاملة. ووفقاً لهذا فإنّ الروح لها ثلاث حالات بالنسبة للجسد، وهي: إرتباط كامل (حالة الحياة واليقظة) وإرتباط ناقص (حالة النوم) وقطع الإرتباط بصورة كاملة (حالة الموت).
3 - النوم هو أحد الصور الضعيفة (للموت)، و (الموت) هو نموذج كامل (للنوم).
4 - النوم هو أحد دلائل استقلال وأصالة الروح، خاصة عندما يرافق بالرؤيا الصادقة التي توضح المعنى أكثر.
5 - إنّ العلاقة التي تربط بين الروح والجسد تضعف أثناء النوم، وأحياناً تقطع تماماً ممّا يؤدي إلى عدم يقظة النائم إلى الأبد، أي موته.
6 - إنّ الإنسان عندما ينام في كلّ ليلة يشعر وكأنّه وصل إلى أعتاب الموت، وهذا الشعور بحد ذاته درساً يمكن الاعتبار منه، وهو كاف لإيقاظ الإنسان من غفلته.
7 - كلّ هذه الأُمور تجري بقدرة الباريء عزّوجلّ، وإن كان قد ورد في بعض الآيات ما يشير إلى أنّ ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح، فهذا لا يعني سوى أنّه ينفّذ أوامر الباريء عزّوجلّ.
وعلى أية حال، فإنّ المراد من قوله تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)هو إثبات دلائل قدرة الباريء عزّوجلّ، ومسألة الخلق، والمعاد، وضعف وعجز الإنسان مقابل إرادة الله عزّوجلّ.
وبعد ما أصبحت - حاكمية - (الله) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة، أمراً مسلماً من خلال الآيات السابقة، تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة، كي تثبت لهم أنّ مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان، وليس الأصنام الجامدة التي لا شعور لها(أم اتخذوا من دون الله شفعاء)(3).
وكما هو معروف فإنّ إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم للأوثان، هي ما ورد في مطلع هذه السورة (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)(4)، إذ أنّهم كانوا يعدونها تماثيل وهياكل للملائكة للأرواح المقدسة، ويزعمون أنّ هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.
ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو، أوّلا: يشعر ويدرك ويفهم، وثانياً: قدير و مالك و حكيم، فإن تتمة الآية تجيبهم (قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون)(5).
إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة شفعاء لكم، فإنّهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، لأن كلّ ما عندهم هو من الله، وإذا كنتم تتخذون من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم، فإنّهم علاوة على عدم امتلاكهم شيئاً لأنفسهم، فهم لا يمتكلون أدنى عقل أو شعور، فاتركوا هذه الأعذار، وعودوا إلى الذي يملك ويحكم كلّ هذا العالم، وإلى من إليه تنتهي كلّ الأمور.
لذا فإنّ الله جلّ وعلا يضيف في الآية التالية (قل لله الشفاعة جميعاً) لأنّه (له ملك السماوات والأرض ثمّ إليه ترجعون).
وبهذا الشكل لم يبق لديهم شيء، لأنّ النظام المسيطر والحاكم على كلّ العالم يقول: لا شفاعة هناك ما لم يأذن الباريء عزّوجلّ بذلك (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)(6).
أو كما يقول بعض المفسّرين: إنّ حقيقة الشفاعة، هي التوسل بأسماء الله الحسنى، التوسل برحمته وغفرانه وستره، طبقاً لهذا فإنّ كافة أشكال الشفاعة تعود في النهاية إلى ذاته المقدسة، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون إذنه(7).
وبشأن إرتباط عبارة (ثم إليه ترجعون) بما قبلها، أظهر المفسّرون عدّة آراء مختلفة منها:
1 - هذه العبارة إشارة إلى أنّ شفاعة الباريء عزّوجلّ لا تقتصر على هذه الدنيا، وإنّما تتعداها إلى الشفاعة في الآخرة، ولذا يجب عدم اللجوء إلى غير الله لحل المشاكل ورفع المصائب كما كان يفعل المشركون.
2 - هذه العبارة هي دليل ثان على اختصاص الشفاعة بالله، لأنّ الدليل الأوّل اعتمد على (مالكية) الله، وهنا تمّ الاعتماد على (عودة جميع الأشياء إليه).
3ـ هذه الجملة هي بمثابة تهديد للمشركين، إذ تقول لهم: إنّكم سترجعون إلى الله، وستشاهدون نتيجة أفكاركم وأعمالكم السيئة والقبيحة.
كلّ هذه التفاسير مناسبة إلاّ أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أنسب.
ملاحظتان
1 - عجائب عالم الرؤيا؟
ما هي حقيقة النوم؟ وما سبب ميل الإنسان إلى النوم؟
بهذا الشأن كتب العلماء أبحاثاً كثيرة:
فالبعض منهم قال: إنّه يأتي نتيجة انتقال جزء كبير من الدم الموجود في المخ إلى بقية أجزاء الجسم، ولذا فإنّ السبب هنا (فيزياوي).
والبعض الآخر يعتقد أنّ النشاط الإضافي للجسم يؤدي إلى تجمع مواد سامّة معينة في الجسم، وهذه الحالة تؤثر على الأنظمة العصبية وتدفع الإنسان إلى النوم، وتستمر هذه الحالة عند الإنسان حتى تتمّ تجزئة تلك السموم وامتصاصها من قبل الجسد، وبهذا يكون السبب هنا (كيمياوياً).
مجموعة اُخرى تقول: إن سبب النوم إنّما يعود لأسباب عصبية لأنّ هناك جهازاً عصبياً نشطاً في داخل مخ الإنسان، وهذا الجهاز هو مصدر الحركة المستمرة لبقية أعضاء الجسم، وهو يتوقف عن العمل إثر التعب الشديد الذي يصيبه فيحصل النوم.
النظريات المذكورة أعلاه عجزت عن إعطاء جواب مقنع فيما يخص مسألة النوم، رغم أنّنا لا يمكن أن ننكر تأثير هذه الأسباب ولو بمقدار ضئيل. نحن نعتقد أنّ التفكير المادي لعلماء اليوم هو السبب الرئيسي الذي يكمن وراء عجزهم عن إعطاء تفسير واضح لمسألة النوم، إذا أنّهم يريدون تفسير هذه المسألة من دون قبول أصالة واستقلالية الروح، فالنوم قبل أن يكون ظاهرة جسدية هو ظاهرة روحية، ومن دون معرفة الروح بصورة صحيحة فإنّ تفسير النوم حالة متعذرة.
القرآن المجيد وضّح من خلال آياته المذكورة أعلاه أدقّ التفاسير لمسألة النوم، إذ يقول: إن النوم هو نوع من أنواع (قبض الروح) وانفصال الروح من الجسد، ولكن هذا الانفصال ليس انفصالا كاملا.
وبهذا الشكل فعندما يخفت شعاع الروح في الجسد بأمر من الله، ولا يبقى غير شعاع خافت اللون يشع في ذلك الجسد، يتعطل جهاز الإدراك والشعور عن العمل، و يتوقف الحسّ والحركة عند الإنسان، عدا بعض الأجزاء التي تبقى تواصل نشاطها لحفظ واستمرار الحياة عند الإنسان، كضربات القلب و دوران الدم ونشاطات الجهاز التنفسي والغذائي.
وقد ورد في حديث عن الإمام الباقر(ع): "ما من أحد ينام إلاّ عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، فهو قوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)"(8).
وثمّة مسألة مهمّة اُخرى هي مسألة (الرؤيا) لأنّ الكثيرين يرون في عالم الرؤيا أحلاماً حدثت و قائعها أو ستحدث فيما بعد في الواقع، مع اختلافات جزئية أو بدون أيّ اختلاف.
التفاسير المادية عاجزة عن توضيح مثل هذه الرؤيا والأحلام، في حين أن التفاسير الروحية تستطيع بسهولة توضيح هذا الأمر، لأنّه عندما تنفصل روح الإنسان عن جسده وترتبط بعالم الأرواح، تدرك حقائق كثيرة لها علاقة بالماضي والمستقبل، وهذه الحالة هي التي تشكل أساس الرؤيا الصادقة، وللتوضيح أكثر يراجع التفسير الأمثل) في نهاية الآية (9) من سورة يوسف، إذ أنّ هناك شرحاً مفصلا بهذا الخصوص.
2 - النوم كما ورد في الروايات الإسلامية:
يتضح جيداً من خلال روايات المفسّرين التي وردت في نهاية الآيات المذكورة أعلاه، أنّ النوم يعني في الإسلام حركة الروح نحو عالم الأرواح، فيما تعني اليقظة عودة الروح إلى الجسد لبدء حياة جديدة.
ونقرأ في حديث ورد عن أمير المؤمنين ع ضمن وصاياه لأصحابه:
"لا ينام المسلم وهو جنب، لا ينام إلاّ على طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد، فإنّ روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها، ويبارك عليها، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته، وإن لم يكن أجله قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته، فيردونها في جسده"(10).
وورد حديث آخر عن الإمام الباقر (ع) جاء فيه: "إذا قمت بالليل من منامك فقل: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي لأحمده وأعبده"(11).
والأحاديث في هذا الشأن كثيرة.
1- كلمة (توفى) تعني قبض الشيء بالتمام، كلمة (أنفس) تعني الأرواح. و كلمة (منام) لها معنى مصدري و تعني النوم.
2- "أم": هنا منقطعة وتعني (بل) و لو كانت متصلة، لكان يجب تقدير القسم الثّاني لها، و هذا خلاف الظاهر.
3- الزمر، 3.
4- عبارة (أولو كانوا لا يعملكون شيئاً) فيها محذوف، و التقدير: (أيشفعون لكم و لو كانوا لا يملكون شيئاً).
5- البقرة، 57.
6- الميزان، المجلد 17، الصفحة 286.
7- مجمع البيان ذيل آية البحث و تفسير الصافي. كلمة (روح) في هذه الرواية تعني (الروح الحيوانية) و عمل أجهزة الجسم الرئيسية، و كلمة (نفس) تعني روح الإنسان.
8- خصال الصدوق، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.
9- أصول الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.
10- "اشمأزت": من مادة (اشمئزاز) و تعني الإنقياض و النفور عن الشيء، (وحده) منصوب حال أو مفعول مطلق.
11- صول الكافي، وروضة الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 490.