الآيات 17 - 20

﴿وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اللهَِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ( 17 ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقُولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهَُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الاَْلْبَـبِ( 18 ) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِى النَّارِ( 19 ) لَـكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَعْدَ اللهَِ لاَ يُخْلِفُ اللهَُ الْمِيعَادَ( 20 )﴾

التّفسير

عباد الله الحقيقيون:

استخدم القرآن الكريم مرّة اُخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات، إذ قارن بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنّم، قال تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى).

ولكون كلمة (البشرى)جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة، فتشمل كافة أنواع البشرى بالنعم الإِلهية المادية والمعنوية، وهذه البشرى بمعناها الواسع تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح.

وكلمة "طاغوت" من مادة (الطغيان) تعني الإعتداء وتجاوز الحدود، ولذا فإنّها تطلق على كلّ متعدّ، وعلى كلّ معبود من دون الله، كالشيطان والحكام المتجبرين (وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع)(1).

فعبارة (اجتنبوا الطاغوت)بمعناها الواسع تعني الإبتعاد عن كلّ أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهوى النفس والشيطان، وتجنب الإنصياع والإستسلام للحكام المتجبرين الطغاة.

أمّا عبارة( أنابوا إلى الله) فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ويجب الإلتفات إلى أنّ عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع و السجود له، وإنّما تشمل كلّ طاعة له، كما ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) "من أطاع جباراً فقد عبده"(2).

ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أُولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (3).

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي، وقد بيّنتا حرية الفكر عند المسلمين، وحرية الإختيار في مختلف الأُمور.

ففي البداية تقول (بشر عباد) ثمّ تعرّج على تعريف أُولئك العباد المقربين بأنّهم أُولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك، إذ لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم، إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة، ليشربوا من نبعها الصافي من دون أيّ حتى يرتووا.

إنّهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب، بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن)، وخلاصة الأمر فإنّهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع، وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق.

أمّا ما المقصود من كلمة (القول) في عبارة (يستمعون القول) فإنّ المفسّرين أعطوا عدّة آراء لتفسيرها، منها:

البعض فسّره بأنّه يعني (القرآن) الذي يحتوي على الطاعات والمباحات، واقتفاء الأحسن يعني اقتفاء الطاعات.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني مطلق الأوامر الإليهة المذكورة في القرآن وغير المذكورة فيه.

ولكن لم يتوفّر أيّ دليل على هذين التّفسيرين، بل أن ظاهر الآية يشتمل كلّ قول وحديث، فالمؤمنون هؤلاء يختارون من جميع الكلمات والاحاديث ما هو (أحسن)، ليترجموه في أعمالهم.

والطريف في الأمر أنّ القرآن الكريم حصر في الآية المذكورة أعلاه الذين هداهم الله بأُولئك القوم الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، كما أنّه اعتبر العقلاء ضمن هذه المجموعة، وهذه إشارة إلى أنّ أفراد هذه المجموعة مشمولون بالهداية الإلهية الظاهرية، والباطنية، الهداية الظاهرية عن طريق العقل والإدراك، والهداية الباطنية عن طريق النور الإلهي والإمداد الغيبي، وهاتان مفخرتان كبيرتان للباحثين وراء الحقيقة ذوي التفكير الحرّ.

ولكون رسول الله (ص) كان يرغب - بشدّة - في هداية المشركين والضالين، و كان يتألّم كثيراً لإنحراف أُولئك الذين لم يعطوا آذاناً صاغبة للحقائق، فأنّ الأية التالية عمدت الى مواساته بعد أن وضحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والإمتحان، و مجموعة من الناس - في نهاية الأمرـ يجب أن تدخل جهنم، إذ قالت: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النّار)(4).

عبارة (حقت عليه كلمة العذاب) إشارة إلى آيات مشابهة، كالآية (85) من سورة ص التي تقول بشأن الشياطين وأتباعهم: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي ارتكبوها، ونتيجة إصرارهم على ارتكاب الظلم والذنب والفساد، بشكل يوضح أنّ روح الإيمان والتعقل كانت ميّتة في أعماقهم، وأنّ وجودهم كان قطعة من جهنم لا أكثر.

من هنا يتبيّن أنّ قوله تعالى: (أفأنت تنقذ من في النّار) هو إشارة الى حقيقة أنّ كونهم من أصحاب النّار يعد أمراً مسلماً به وكأنّهم الآن هم في قلب جهنم، حتّى أنّ رسول الله (ص) الذي هو (رحمة للعالمين) لا يستطيع إنقاذهم من العذاب، لأنّهم قطعوا كافّة طرق الإتصال بالله سبحانه وتعالى ولم يبقوا أيّ سبيل لنجاتهم.

ولبعث السرور في قلب رسول الله (ص) ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين، جاء في آخر الآية: (لكن الذين اتقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف).

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النّار، كما ورد في الآية السابقة: (لهم من فوقهم ظلل من النّار ومن تحتهم ظلل) فإنّ لأهل الجنّة غرفاً من فوقها غرف اُخرى، وقصور فوقها قصور اُخرى، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

"غرف" جمع "غرفة"من مادة "غرف" وعلى وزن حرف - بمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه "غرفة" ثمّ اطلقت على الطبقات العليا من المنازل.

وكشفت الآية أيضاً عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها (تجري من تحتها الأنهار) نعم، هذا وعد الله (وعد الله لا يخلف الله الميعاد)(5).

بحوث

1 - منطق حرية التفكير في الإسلام

الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع و آراء بقية المذاهب، إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الأُخرين أقوى من حجّتهم الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.

إلاّ أنّ الإسلام - شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه - ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع أراء الأُخرين، ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط، ولا يتقبلون كلّ وسواس.

الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، الذين لا يكتفون بترجيح الجيد على السيء، وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي.

ويوبّخ - بشدّةـ الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق، كما ورد في قول نوح(ص) عندما شكى قومه للباريء عزّوجلّ: (و إنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً)(6).

واساساً فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقاً قوياً لا يرهب أقوال الأُخرين، ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب، لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه.

هذه الآية وضعت - في نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدى صدقه، وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب) والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا الإستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.

2 - الردّ على بعض الأسئلة

من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة، منها:

1 - لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.

2 - لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.

3 - كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من السي، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟

الجواب على السؤال الأوّل واضح، لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر، فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنّه مادام الأمر لم يثبت لأحد، أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأُخرى لقبول الدين الصحيح، لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني، فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّاً بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف، فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمراً ممنوعاً، بل يعدّ واجباً، والعلماء الذين حرّموا ذلك لا يقصدون هذا المعنى.

ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.

وأمّا بشأن السؤال الثّالث، فيجب الإلتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما، ولكن عندما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل.

وعلى سبيل المثال، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة، ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السىء غير المتناسق، كما أنّ هناك أشخاصاً كثيرين ليسوا بشعراء، إلاّ أنّهم يتمكنون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين، وانتخاب الجيد منهم.

3 - نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤّكد على حرية التفكير

وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه، كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع، ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر(ع)، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا: "يا هشام، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)"(7).

وورد حديث آخر عن الأمام الصادق (ع) في تفسير الآية المذكورة أعلاه، قال فيه: "هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، لا يزيد فيه ولا ينقص"(8).

وبالطبع، فإنّ تفسير (فيتبعون أحسنه) هو المقصود في هذا الحديث، لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول، وينقله ذاته للآخرين.

ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنين (ع): (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق"(9).

4 - سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباباً لنزول هذه الآيات، ومنها، أنّ الآية: (و الذين اجتنبوا الطاغوت...) والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة) كانو يقولون لا إله إلا الله، والثلاثة هم (سلمان الفارسي وأبوذر الغفاري وزيد بن عمرو)(10).

وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الرّوايات(11).

والبعض الآخر قال: إنّ الآية: (أفمن حق عليه كلمة العذاب...) نزلت بشأن (أبي جهل) وأمثاله(12).

وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسباباً للنزول.


1- مجمع البيان، الجزء السابع، الصفحة 493، ذيل آية البحث.

2- (عباد) كانت في الأصل (عبادي) و قد حذفت الياء و عوض عنها بالكسرة.

3- في الحقيقة، إنّ الآية تحوي جملة محذوفة تدل عليها الجملة التي تلتها، تقديرها (أفأنت تخلصه) إذ يصبح تقدير الجملة كالتالي (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تخلصه (بقرينة الجملة التالية) أفأنت تنقذ من في النّار) و قال البعض الآخر: إن تقدير الآية هو كالتالي (أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه).

4- يقول "الزمخشري" في الكشاف: (وعد الله) منصوب لكونه مفعولا مطلقاً للتأكيد، ولأنّ عبارة (لهم غرف) تعني (وعدهم الله غرفاً) .

5- سورة نوح، الآية 7.

6- 1 الكافي، المحلد الأوّل، كتاب العقل الحديث (12).

7- نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 486، الحديث 34.

8- نهج البلاغة، قصار الكلمات، الخطبة (80) .

9- تفسير القرطبي; ومحمع البيان ذيل آيات البحث.

10- الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان، المجلد17، صفحة 267.

11- القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.

12- "ينابع" على ما هو المشهور يكون منصوباً بنزع الخافض، و هو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني، ج23، ص256; روح البيان، ج8، ص93.