الآيتان 6 - 7
﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسِ وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاَْنْعَـمِ ثَمَـنِيَةَ أَزْوَاج يَخْلُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقً فِى ظُلُمَـتِ ثَلَـثِ ذَلِكُمُ اللهَُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ( 6 ) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهََ غَنِىٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 7 )﴾
التّفسير
الجميع مخلوقون من نفس واحدة:
مرّة اُخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة خلق الله، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الأُخرى التي منّ بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.
في البداية تتحدّث عن خلق الإنسان وتقول: (خلقكم من نفس واحدة ثمّ جعل منها زوجها).
خلق كلّ بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر، إذ أنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم واستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم(ع).
وعبارة: (ثمّ جعل منها زوجها)(1) إشارة إلى أن الله خلق آدم في البداية، ثمّ خلق حواء ممّا تبقى من طينته.
وعلى هذا الأساس فإنّ عملية خلق حواء تمّت بعد خلق آدم، وقبل خلق أبناء آدم.
عبارة(ثمّ) لا تأتي دائماً كتأخير للزمان، وإنّما تأتي أحياناً كتأخير للبيان، فمثلا يقال: رأيت ما عملته اليوم ثمّ رأيت ما عملته بالأمس، في حين أنّ عمل الأمس قد نفذ قبل عمل اليوم، ولكن المراد هنا أنّ مشاهدته تمّت بعد عمل اليوم.
والبعض اعتبر الآية المذكورة أعلاه تشير إلى (عالم الذّر) وخلق أبناء آدم بعد خلق آدم وقبل خلق حواء بشكل أرواح، هذا التّفسير غير صحيح، وقد بيّنا هذا في تفسير وتوضيح "عالم الذّر" في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف.
وممّا يجدر ذكره أنّ زوجة آدم(ع) لم تخلق من أي جزء منه، وإنّما خلقت ممّا تبقى من طينته التي خلق منها، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية، وأمّا الرّوايات التي تقول بأنّها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فإنّه كلام خاطىء مأخوذ من بعض الرّوايات الإِسرائيلية، ومطابق في نفس الوقت لما جاء في الفصل الثّاني من كتاب التّوراة (سفر التكوين) المحرّف، إضافة إلى كونه مخالفاً للواقع والعقل، إذ أنّ تلك الرّوايات ذكرت أنّ أحد أضلاع آدم قد أخذ وخلقت منه حواء، ولهذا فإنّ الرجال ينقصهم ضلع في جانبهم الأيسر، في حين أنّنا نعلم بعدم وجود أيّ فارق بين عدد أضلع المرأة والرجل، وهذا الإختلاف ليس أكثر من خرافة.
بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الانعام تؤمّن للإنسان ضروريات الحياة، حيث يستفيد من جلودها لملابسه، ومن حليبها ولحمه الغذائه، ومن جهة اُخرى يصنع من جلودهاوأصوافها عدّة أُمور يستفيد منها في حياته، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والأنثى لكلّ من الإِبل والبقر والضأن والمعز، ومن هنا فإنّ كلمة (زوج) تطلق على كلّ من الذكر والأنثى، ولهذا فأنّ عدده يكون ثمانية أزواج. (ولذا في بداية الآية هذه اُطلقت كلمة زوج على حواء).
وعبارة(أنزل لكم) والتي تخص هنا الأنعام الأربعة - كما بيّنا ذلك من قبل - لا تعني فقط إنزال الشيء من كان عال، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدني المقام) والنعم من مقام أعلى الى أدنى.
كما ذكروا احتمالا آخر في أن (إنزال) مشتقّة هنا من (نزل) على وزن (رسل) وتعني ضيافة الضيف، أو أوّل ما يقدم للضيف، ونظير هذا المعنى ورد في الآية (198) من سورة ال عمران بخصوص أهل الجنّة، قال تعالى: (خالدين فيها نزلا من عند الله).
وقد ذهب بعض المفسّرين الى أنّ الأنعام الأربعة مع أنّها لم تنزل من مكان أعلى إلى الأرض، فأنّ مقدّمات توفير متطلبات حياتها وتربيتها والتي هي قطرات المطر وأشعة الشمس هي التي تنزل من الأعلى إلى الأرض.
وورد تفسير رابع لهذه العبارة هو أنّ كلّ الموجوات كانت من البداية موجودة في خزائن علم وقدرة الباريء عزّوجلّ، أي في علم الغيب، ثمّ انتقلت من الغيب إلى الشهادة أي إلى (الظهور)، ولهذا أطلقوا على هذا الإنتقال عبارة (الإنزال) كما ورد ذلك في الآية (21) في سورة الحجر: (و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم)(2).
لكنّ التّفسير الأوّل أكثر مناسبة من غيره، رغم عدم وجود أي تعارض بين هذه التفاسير، بل من الممكن أن تصب جميعها في نفس المفهوم والمعنى.
وورد عن أمير المؤمنين(ع) حديث في تفسير هذه الآية جاء فيه: "إنزاله ذلك خلقه إباه" أي أن إنزال تلك الأزواج الثمانية من الأنعام يعني خلقها من قبل الله.
ظاهر الحديث يشير إلى التّفسير الأوّل، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق، وله المقام الأسمى والأرفع.
وعلى أية حال، فرغم أنّ الأنعام المذكورة قليلا ما يستفاد منها اليوم في عمليات النقل وحمل الأثقال، لكنّها تقوم بمنافع مهمّة اُخرى يزداد ويتسع حجم الإحتياج إليها يوماً بعد آخر، لأنّها تغطي اليوم الجانب الأعظم من احتياجات الإنسان الغذائية كالحليب واللحوم، إضافة إلى أصوافها وجلودها التي كانت منذ السابق وحتى يومنا هذا تستخدم في صناعة الألبسة وغيرها من الأُمور التي يحتاج إليها الإنسان، حتى أنّ أحد المنابع المالية المهمّة بيد الدول الكبيرة في العالم يأتي عن طريق تربيه وتكثير هذه الحيوانات.
ثمّ تتطرق الآيات إلى حلقة اُخرى من حلقات خلق الله، وهي عملية نمو الجنين إذ تقول الآية: (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث).
يتضح أنّ المقصود من (خلقاً من بعد خلق) هو الخلق المتكرر والمستمر، وليس الخلق مرتين فقط.
"يخلقكم": فعل مضارع يعطي معنى الإستمرارية، وهو هنا بمثابة إشارة قصيرة ذات معان عميقة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الأُم. وطبقاً لأقوال علماءعلم الأجنّة فإنّ عملية خلق ونمو الجنين في بطن الأُمّ تعدّ من أعجب وأدقّ صور خلق الباريء عزّوجلّ، ونادراً ما نلاحظ أنّ المطلعين على دقائق هذه القضايا لا تلهج ألسنتهم بحمد الخالق وثنائه.
وقوله (ظلمات ثلاث)إشارة إلى ظلمة بطن الأمّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي في الحقيقة ثلاثة أغلفة سميكة تغطي الجنين.
فالمصورون - الآن - بحاجة إلى ضوء ساطع ونور من أجل التصوير، أمّا خالق الإنسان فيخطط في تلك الظلمة بشكل عجيب ويصور بشكل يدهش العقول، ويمدّه بأسباب العيش في مكان لا يمكن لأحد أن يوصل إليه رزقه الذي هو في أمسّ الحاجة إليه للنمو.
الإمام الحسين(ع) سيد الشهداء يقول في دعائه المعروف بدعاء عرفه، الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد، يقول عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري عزّوجلّ عليه: "وابتدعت خلقي من مني يمنى، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إليّ من أمري ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً"(3).
(ممّا يذكر أنّنا قد تطرقنا إلى عجائب خلق الجنين ومراحل خلقه في ذيل الآية (السادسة) من سورة آل عمران وفي ذيل الآية (الخامسة) من سورة الحج).
وفي نهاية الآية، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين، يقول الباريء عزّوجلّ: (ذلكم الله ربّكم له الملك لا إله إلاّ هو فأنى تصرفون).
فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الأثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود. ثمّ أشار تعالى إلى ذاته القدسية، حيث يقول: (ذلكم الله ربّكم) حقّاً لو كانت هناك عين بصيرة فيمكنها أن تراه إنّه وراء هذه الآثار... فعين الجسم ترى الآثار، وعين القلب ترى خالق الآثار.
عبارتي "ربّكم" و "له الملك" تدلان في الحقيقة على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة، والذي اتضح بصورة جيدة في عبارة (لا إله إلا هو) فعندما يكون هو الخالق والمالك والمربي والحاكم لكلّ عالم الوجود، فما هو دور غيره في هذا العالم كي يستحق العبودية؟!
وهنا تصرخ الآية بوجه مجموعة من النائمين والغافلين قائلة: (فأنى تصرفون) أي كيف ضللتم وانحرفتم عن سبيل التوحيد(4)؟
بعد ذكر هذه النعم الكبرة التي منّ بها الباريء عزّوجلّ على عباده، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر، وتناقش جوانب من هذه المسألة. وفي البداية تقول: (إن تكفروا فإنّ الله غني عنكم) اي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم، والله غني عنكم في حال كفركم وشكركم.
ثمّ تضيف، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية، نعم، قال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر و إن تشكروا يرضه لكم)(5).
وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي تحمل شخص مسؤولية أعماله، لأن قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر، قال تعالى: (ولا تزر وازرةٌ وزر اُخرى).
ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب، فالآية تشير في المرحلة الرّابعة إلى قضية المعاد، وتقول: (ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون).
ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان، تختتم الآية بالقول: (إنه عليم بذات الصدور).
بهذا الشكل، ومن خلال جمل قصار، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والجزاء والثواب. وهذه الآية جواب قاطع لمن يتولى المذهب الجبري، الذي انتشر - ممّا يؤسف له - في صفوف بعض الطوائف الإسلامية، لأنّ الآيات الكريمة تقول وبصراحة: (ولا يرضى لعباده الكفر).
وهذا دليل واضح على أن إرادة الكفر لم تفرض على الكافرين (كما يقول بذلك أتباع المذهب الجبري) لأنّ من البديهي أنّ من لا يرتضي شيئاً لا يأتي به، فهل يمكن أنّ تكون إرادة الله منفصلة عن رضاه؟ متعصبو المذهب الجبري يثيرون العجب عندما يعمدون إلى ستر هذه العبارة الواضحة من خلال حصر كلمة (العباد) بالمؤمنين أو المعصومين، في حين أنّها كلمة ذات معنى مطلق وتشمل بصورة واضحة كلّ العباد، نعم، فالباري، عزّوجلّ لا يرتضي الكفر لأحد من عباده، مثلما يرتضي الشكر لكلّ عباده من دون أي استثناء(6).
وهذه النقطة تلفت الإنتباه، وهي أنّ أساس تحمّل كلّ إنسان لمسؤولية أعماله يعدّ من الأسس المنطقية والمسلم بها في كلّ الأديان السماوية(7).
وبالطبع يمكن أحياناً أن يكون الإنسان مشتركاً في ذنوب الأُخرين، وذلك عندما يكون مضطلعاً أو مساهمأ مع آخرين في تهيئة مقدمات أو أسس ذلك العمل، كالذين يبتدعون البدع أو السنن الضالة، في هذه الحالة تكون ذنوب أي شخص يرتكب تلك المحرمات في ذمة مسببها الرئيسي دون أن تقلل ذنوب ذلك الشخص الذي ارتكب الذنب(8).
1- تفسير الميزان; وروح المعاني ذيل آيات البحث.
2- دعاء عرفة، مصباح الزائر، ابن طاووس.
3- نلفت الإنتباه إلى أن (أنّى) تأتي أحياناً بمعنى (اين) وأحياناً اُخرى بمعنى(كيف) .
4- وفق القراءات المشهورة، فإن (يرضه) تقرأ بضم الهاء و بدون إشباع الضمير، لأنّها كانت في الأصل (يرضاه) و قد أسقطت الألف بسبب الجزم و أصبحت (يرضه) و الضمير فيها يعود على الشكر. و رغم أن كلمة (شكر) لم ترد من العبارة السابقة بصورة صريحة، إلاّ أن عبارة (إن تشكروا) تدل عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى الضمير في (اعدلوا هو أقرب للتقوى) الذي يعود على العدالة.
5- هناك بحث مفصل في ذيل الآية (5) من سورة إبراهيم ـ عن أهمية و فلسفة الشكر وعن مفهومها الحقيقي وأبعادها.
6- بهذا الخصوص هناك بحث في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.
7- هناك بحث بهذا الشأن في ذيل الآية (14) من سورة الأنعام.
8- هناك اختلاف بين المفسّرين حول المعنى الذي تعطيه(ما) في عبارة (نسي ما كان يدعو إليه) البعض يعتقد أن (ما) موصولة تشير إلى (ضر) و لكون هذا المعنى هو الأنسب، فقد قدم على المعاني الأخرى، و قال البعض أيضاً: إن (ما) موصولة و المراد منها هو الله سبحانه و تعالى: و مجموعة أخرى قالت: إن (ما) مصدرية و تعني الدعاء، و إمعان النظر في الآية (12) من سورة يونس: (و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه) يبيّن أن هذه الآية شاهد على صحة المعنى الأوّل.