الآيتان 4 - 5
﴿لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَـنَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ( 4 ) خَلَقَ السَّمَـوَاتَ وَ الاََرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّـرُ( 5 )﴾
التّفسير
ما حاجة الله إلى الأولاد؟
المشركون إضافة إلى أنّهم يعتبرون الأصنام وسيطاً وشفيعاً لهم عند الله، كما استعرضت ذلك الآيات السابقة، فقد اعتقدوا - أيضاً - أن بعض المخلوقات - كالملائكة - هي بنات الله، والآية الأولى في بحثنا تجيب على هذا الإعتقاد الخاطىء والتصور القبيح بالقول: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار).
ذكر المفسرون آراء مختلفة في تفسير هذه الآية:
قال البعض: يقصد منها لو أنّ الله كان راغباً في انتخاب ولد له، فلِمَ ينتخب
البنات اللاتي تزعمون أنّهنّ لا قيمة لهنّ؟ فلم لا ينتخب له أبناء؟ وهذا - في الحقيقة - نوع من أنواع الإستدلال وفق ذهنية الطرف المقابل كي يفهم أن كلامه لا أساس له من الصحة.
وقال آخر: إنّما يقصد منها لو أنّ الله كان راغباً في انتخاب ولد له، لكان قد خلق موجودات اُخرى أفضل وأرفى من الملائكة.
وبالنظر إلى كون مكانة الأنثى لا تقلّ عن مكانة الذكر عند الباريء عزّوجلّ،وبالنظر إلى كون الملائكة أو عيسى ع - والذين اعتبرهم بعض المنحرفين أبناء الله - من الموجودات الشريفة والمحترمة، فإنّه لا يعدّ أيّ من التّفسيرين السابقين مناسباً.
والأفضل هو القول بأنّ الآية تريد القول: إنّ الابن مطلوب إمّا لتقديم العون أو لمؤانسة الروح، وبفرض المحال فإنّ الله عزّوجلّ لو كان محتاجاً لمثل هذا الأمر، لا صطفى لهذا بعضاً ممّن يشاء من أشرف خلقه، فلم يتخذ ولداً؟
ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شيء والأزلي والأبدي، فإنّه لا يحتاج إلى مساعدة أيّ أحد، ولا يستوحش من وحدانيته حتى يزيلها عن طريق الأُنس مع الآخرين، لهذا فهو منزّه ومقدّس عن الولد، حقيقياً كان أو منتخباً.
وإضافة إلى ما ذكرناه من قبل، فإنّ أُولئك الجهلة الذين يتصورون أحياناً أن الملائكة هم أبناء الله، وأحياناً اُخرى يقولون بوجود نسبة بين الباري، عزّوجلّ والجن، وأحياناً يقولون بأن (المسيح) أو (العزير) هم أبناء الله، يجهلون الكثير من الحقائق الواضحه، فإن كان قصدهم هو الولد الحقيقي:
فأولاً: يجب أن يكون الباري تعالى جسماً.
ثانياً: التركيب من أجزاء (لأنّ الوالد جزء من الأب ينفصل عن وجود أبيه).
ثالثاً: حتمية وجود شبيه ونظير له (لأنّ الأولاد على الدوام يشبهون الآباء).
رابعاً: احتياجه لزوجة، والله منزّه ومقدّس عن كلّ تلك الأُمور.
وإن كان المقصود هو الولد المنتخب أي (المتبنىّ) فإن ذلك إنّما يتمّ لأجل احتياجه لمساعدة جسدية أو لمؤانسة روحية، والله القادر القاهر لا يحتاج إلى كلّ هذه الأمور. وبهذا فإنّ وصفه بـ (الواحد) و(القهار) هو جواب مختصر على كلّ تلك الإحتمالات.
على أية حال، فإنّ عبارة (لو) التي تستخدم عادة للشرط المستحيل إشارة إلى أن هذا الفرض محال في أن ينتخب الباريء عزّوجلّ ولداً له، وبفرض المحال أنّه يحتاج، فإنّه غير محتاج لما يقولونه من اتخاد الولد، بل إن مخلوقاته المنتخبة هي التي تؤمن هذا الأمر.
ولإثبات حقيقة أنّ الله لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده وعظمته، يقول الباريء عزّوجلّ: (خلق السموات والأرض بالحق).
كون تلك الأُمور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان، ثمّ لا تنتهي عند البعث.
بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب، والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم أُولئك، إذ يقول القرآن المجيد: (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل).
ما أجملها من عبارة! فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة الأرضية، ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكون الليل والنهار اللذين يطوقان سطحها المكور، لشاهد - بصورة منتظمة - أن سواد الليل يستولي على طرف النهار من جهة ومن الجهة المقابلة يرى بأن ضوء النهار يستولي محركة مستمرة على ظلام الليل.
"يكور" من (تكوير) وتعني الشيء المتكور أو المنحني، ويعتبر أصحاب اللغة تكوير العمامة على الرأس نموذجاً للتكوير، وهذا التعبير القرآني الجميل يكشف عن بعض الأسرار، لكن الكثير من المفسّرين نتيجة عدم التفاتهم إلى كروية الأرض ذكروا مواضيع اُخرى لا تناسب مفهوم كلمة (التكوير)، فمن هذه الآية يتجلّى لنا أن الأرض كروية وتدور حول نفسها، ومن جراء هذا الدوران، يطّوق الأرض دائماً شريطان، أحدهما سواد الليل، والثّاني بياض النهار، ولا يبقى هذان الشريطان ثابتين، وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط الأبيض يغطي الأسود من جهة اُخرى، أثناء حركة الأرض حول نفسها.
وعلى أية حال، فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و (النور) و (الظلمات) في عدّة آيات مختلفة، كلّ واحدة منها تشير إلى نقطة معينة، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة، فأحياناً يقول: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)(1).
الحديث - هنا - يتطرق لتوغّل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي تتمّ بصورة بطيئة وهادئة.
و أحياناً اُخرى يقول: (يغشى الليل النهار) (2) ، وهنا تمّ تشبيه الليل بستائر مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه.
ثمّ تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا العالم، قال تعالى: (و سخر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى).
فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقية كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصّة في مجرة درب التبانة أدنى خلل، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً، ولا يظهر أي خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه، فالكلّ يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك وفقها، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.
ويوجد احتمال آخر، وهو أنّ المراد من تسخير الشمس والقمر هو تسخيرها للإنسان بإذن الله، كما ورد في الآية (33) من سورة إبراهيم: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين). ولكن بالإلتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في هذه الآية مورد البحث، إضافة إلى عدم ورود كلمة (لكم) في الآية، يجعل التّفسير المذكور أعلاه مستبعداً بعض الشيء.
نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول: (ألا هو العزيز الغفار) فبحكم عزّته و قدرته المطلقة لا يمكن لأىّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه، وبمقتضى كونه الغفّار، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين، ويظللهم بظلّ رحمته.
"غفار" صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر (غفران) وتعني في الأصل لبس الإِنسان لشيء يقيه من التلوّث، وعندما تستخدم بشأن الباري، عزّوجلّ فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه، نعم فهو (غفار) في اوج عزته وقدرته، وهو (قهار) في أوج رحمته وغفرانه، والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية، هو إيجاد حالة من "الخوف" و "الرجاء" عند العباد، وهما عاملان رئيسيان وراء كلّ تحرك نحو الكمال.
1- سورة الأعراف، 54.
2- في قوله تعالى: (ثم جعل منها زوجها) محذوف تقديره (خلقكم من نفس واحدة خلقها، ثمّ جعل منها زوجها) .