الآيات 26 - 29
﴿يَـدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِى الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاَْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ مُبَـرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الاَْلْبَـبِ (29)﴾
التّفسير
اُحكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس:
نواصل استعراض قصّة داود، ونقف هنا على أعتابها النهائية، حيث إن آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد أن وضحت مقامه الرفيع، إذ تقول: (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه إن الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم القيامة).
محتوى هذه الآية التي تتحدّث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحّة.
فهل يمكن أن ينتخب الباري عزّوجلّ شخصاً ينظر إلى شرف المؤمنين والمقرّبين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء- خليفة له في الأرض، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!
هذه الآية تضمّ خمس جمل كلّ واحدة منها تتحدّث عن حقيقة معيّنة:
الاُولى: خلافة داود في الأرض، فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السابقين، أمّ أنّها تعني خلافة الله؟ المعنى الثاني أنسب ويتطابق مع ما جاء في الآية (30) من سورة البقرة: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة).
بالطبع فإنّ المعنى الواقعي للخلافة لا يتعلّق بالله، لأنّه يأتي في مورد وفاة شخص أو غيابه، والمراد من الخلافة هنا هو أن يكون نائباً لله بين العباد، والمنفّذ لأوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض. هذه الجملة تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة، وأي حكومة لا تستلهم شرعيتها من الحكومة الإلهيّة فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.
الجملة الثانية: تأمر داود قائلة: بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة، أي الخلافة، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ (فاحكم بين الناس بالحقّ).
وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكّم بالحقّ، ومن هذه الجملة يمكن القول أنّ حكومة الحقّ تنشأ- فقط- عن خلافة الله، وأنّها النتيجة المباشرة لها.
أمّا الجملة الثالثة: فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل، ألا وهو اتّباع هوى النفس (ولا تتبع الهوى).
نعم، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان، ويباعد بينه وبين العدالة.
لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول: (فيضلّك عن سبيل الله).
فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.
فالحاكم الذي يتّبع هوى النفس، إنّما يفرّط بمصالح وحقوق الناس لأجل مطامعه، ولهذا السبب فإنّ حكومته تكون مضطربة ومصيرها الإنهيار والزوال.
ومن الممكن أن يكون لـ (هوى النفس) معاني واسعة، تضمّ في نفس الوقت هوى نفس الإنسان، وهوى النفس عند كلّ الناس، وهكذا فإنّ القرآن يحكم ببطلان المناهج الوضعيّة التي تستند على أفكار عامّة الناس في الحكم، لأنّ نتيجة الإثنين هو الضلال والإنحراف عن سبيل الله وصراط الحقّ.
واليوم نشاهد الآثار السيّئة لهذا النوع من التفكير في عالم يسمّى بالعالم المتطور والحديث، فأحياناً نرى أشنع وأقبح الأعمال تأخذ شكلا قانونياً نتيجة الأخذ بآراء الناس، ورائحة الفضيحة في هذا العالم قد أزكمت الاُنوف، والقلم يجلّ عن ذكرها.
صحيح أنّ اُسس الحكومة مستندة على الجماهير، وأنّ مشاركة الجميع فيها يحفظ اُسسها، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ رأي الأكثرية هو معيار الحقّ والباطل في كلّ شيء وفي كلّ مكان.
فالحكومة يجب أن يكون إطارها الحقّ، ولتطبيق الحقّ لا بأس بالإستعانة بطاقات أفراد المجتمع، وعبارة (الجمهورية الإسلامية) المتكوّنة من كلمتي (الجمهورية) و (الإسلامية) تعطي المعنى السابق، وبعبارة اُخرى فإنّ اُصولها مستمدّة من نهج الإسلام، وتنفيذ تلك الاُصول يتمّ بمشاركة الجماهير.
وأخيراً فإنّ الجملة الخامسة تشير إلى أنّ كلّ ضلال عن سبيل الله لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب الله الشديد ينتظره (إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
ومن الطبيعي أنّ نسيان يوم القيامة هو مصدر الضلال، وكلّ ضلال مرتبط بالنسيان، وهذا المبدأ يوضّح التأثير التربوي في الإهتمام بالمعاد في حياة البشر.
ولقد وردت روايات بهذا الشأن في المصادر الإسلامية، ومنها حديث مشهور عن رسول الله (ص) وعن أمير المؤمنين (ع) جاء فيه: "أيّها الناس، إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان: اتّباع الهوى، وطول الأمل; فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة"(1).
أليس من الأفضل كتابة هذا الحديث بماء الذهب، ووضعه أمام الجميع خاصّة الحكّام والقضاة والمسؤولين.
وفي رواية اُخرى وردت عن الإمام الباقر (ع)، جاء فيها: "ثلاث موبقات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه"(2).
وتتمّة للبحث الذي إستعرض حال داود وخلافته في الأرض، تتطرّق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم، وجاء في قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).
هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدراً لكلّ الحقوق، وهي: ما الهدف من وجود الخلق؟ فعندما ننظر إلى هذا العالم الوسيع، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله عبثاً، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ، فعليها أن تثبت اُسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.
وبعبارة اُخرى: إنّ الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة.
الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرّقت إلى نسيان يوم الجزاء، متطابقة بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا، لأنّ هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم الجزاء والحساب، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لو لم يكن هناك يوم للحساب، فإنّ خلق العالم يعدّ عبثاً.
ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصّل بين الإيمان والكفر، وإعتقاد المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للإبتلاءات التي إبتلينا بها اليوم، إذ أنّ اتّباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أنّ خلق العالم لا فائدة فيه، ولا هدف يرتجى من ورائه، فمن يفكّر هكذا كيف يتمكّن من تطبيق الحقّ والعدالة في حكومته؟!
الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحقّ والعدالة، هي الحكومة التي تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادىء الإلهيّة، والتي تقول إنّ الباري عزّوجلّ لم يخلق العالم عبثاً وإنّما خلقه لأهداف وأغراض معيّنة، كي تسير الحكومات وفق تلك الأهداف، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الإقتصاد والثقافة، فالسبب الرئيسي يكمن في إبتعادهم عن هذا الأمر، ولهذا فإنّ اُسس حكوماتهم تقوم على الظلم والتسلّط، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من التفكير العشوائي!
على أيّة حال، فإنّ الباري عزّوجلّ حكيم، ومن غير الممكن أن يخلق هذا العالم من دون هدف، فالعالم هذا مقدّمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا، وهو أبدي وخالد يوضّح الأهداف الحقيقيّة وراء خلق عالم الدنيا.
الآية التالية تضيف: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار)(3).
كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمراً مستحيلا، فمن المستحيل أيضاً المساواة بين الصالحين والطالحين، لأنّ المجموعة الاُولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية، بينما كانت المجموعة الثانية تسير بإتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاُولى.
الواقع أنّ بحث المعاد بكافّة أبعاده قد تمّ تناوله في هذه الآية والآية التي سبقتها بشكل مستدلّ.
فمن جهة تقول: إنّ حكمة الخالق تقتضي أن يكون لخلق العالم هدف، وهذا الهدف لا يتحقّق بعدم وجود عالم آخر، لأنّ الأيّام القلائل التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا لا قيمة لها بالنسبة للهدف الرئيسي الكامن وراء خلق هذا العالم الواسع.
ومن جهة اُخرى، فإنّ حكمة وعدالة الباري عزّوجلّ تفرض أن لا يتساوى المحسن والمسيء والعادل والظالم، ولهذا كان البعث والثواب والعقاب والجنّة والنار.
وبغضّ النظر عن هذا، فعندما ننظر إلى ساحة المجتمع الإنساني في هذه الدنيا نشاهد الفاجر في مرتبة المؤمن، والمسيء إلى جانب المحسن، ولربّما في أكثر الأحيان نرى المفسدين المذنبين يعيشون في حالة من الرفاه والتنعّم أكثر من غيرهم، فإذا لم يكن هناك عالم آخر بعد عالمنا هذا لتطبيق العدالة هناك، فإن وضع العالم هذا مخالف "للحكمة" و (للعدالة)، وهذا هو دليل آخر على مسألة المعاد.
وبعبارة اُخرى، فلإثبات مسألة المعاد- أحياناً- يمكن الإستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحياناً اُخرى عن طريق برهان (العدالة)، فالآية السابقة إستدلال بالحكمة، والآية التي بعدها إستدلال بالعدالة.
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح- في حقيقة الأمر- الهدف من الخلق، إذ جاء في الآية الكريمة: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكّر اُولوا الألباب).
فتعليماته خالدة، وأوامره عميقة وأصيلة، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدّي إلى إكتشاف هدف الخلق.
فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر- فقط- على تلاوته وتلفّظ اللسان به، بل لكي تكون آياته منبعاً للفكر والتفكّر وسبباً ليقظة الوجدان، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.
كلمة (مبارك) تعني شيئاً ذا خير دائم ومستمر، أمّا في هذه الآية فإنّها تشير إلى دوام إستفادة المجتمع الإنساني من تعليماته، ولكونها إستعملت هنا بصورة مطلقة، فإنّها تشمل كلّ خير وسعادة في الدنيا والآخرة.
وخلاصة الأمر، فإنّ كلّ الخير والبركة في القرآن، بشرط أن نتدبّر في آياته ونستلهم منها ونعمل بها.
ملاحظتان
1- التقوى والفجور أمام بعضهما البعض
في الآيات المذكورة أعلاه، ورد الفساد في الأرض في مقابل الإيمان والعمل الصالح، والفجور (الذي يعني تمزيق حجب الدين) في مقابل التقوى والورع.
هل أنّ هذين الإثنين، يوضّحان حقيقة واحدة في عبارتين، أم أنّهما يوضّحان موضوعين؟ من غير المستبعد أن يكون الإثنان تأكيداً لمعنى واحد، لأنّ (المتّقين) هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح و (الفجّار) هم المفسدون في الأرض.
ويحتمل في أن تكون الجملة الاُولى هي إشارة إلى الجوانب العملية والعقائدية لكلا الطرفين، إذ تقارن بين أصحاب العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة وبين أصحاب العقائد الفاسدة والأعمال الخبيثة، في حين أنّ الجملة الثانية تشير فقط إلى الجانب العملي.
ويحتمل أيضاً أنّ (التقوى والفجور) شاهدان على كمال ونقص الإنسان، والعمل الصالح والفساد في الأرض شاهدان على الجوانب الإجتماعية، ولكن التأكيد يعدّ أنسب.
2- لمن تعني هذه الآيات؟
جاء في إحدى الروايات التي تفسّر قوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) بأنّها إشارة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وأنصاره، في حين أنّ بقيّة الآية (المفسدين في الأرض) إشارة إلى أعدائه(4).
وجاء في حديث آخر نقله (ابن عساكر) عن ابن عبّاس، في أنّ المقصودين في الآية (الذين آمنوا) "علي" و "حمزة" و "عبيدة" الذين واجهوا في معركة بدر كلا من "عتبة" و "الوليد" و "شيبة" ورموز جيش الكفر والشرك (وتمكّنوا من قتلهم في ساحة المعركة. فبهذا يكون عتبة والوليد وشيبة هم المقصودين في الآية (المفسدين في الأرض)(5).
الواضح من معنى هذه الرّوايات أنّها لا تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين، وإنّما هي بيان لأسباب النّزول، أو أنّها مصداق واضح وبارز لهذه الآية.
1- نهج البلاغة، الخطبة (42).
2- كتاب "الخصال" نقلا عن نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 453.
3- بعض المفسّرين قالوا: إنّ (أمّ) هنا تعطي معنى (بل) للاضراب، وهنا إحتمال آخر يقول: إنّ (أم) جاءت للعطف على إستفهام محذوف، وتقدير الآية هو (أخلقنا السموات والأرض باطلا أم نجعل المتّقين كالفجّار؟).
4- تفسير نور الثقلين، المجلّد الرابع، الصفحة 453 (الحديث 37).
5- تفسير روح المعاني، المجلّد 23، الصفحة 171.