الآيات 149 - 160

﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَئِكَةَ إِنَثاً وَهُمْ شَـهِدُونَ (150) أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَـنٌ مُّبِينٌ(156)فَأْتُوا بِكِتَـبِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُـحْضَرُونَ (158) سُبْحَـنَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُـخْلَصِينَ (160)﴾

التّفسير

التهم القبيحة:

بعد إستعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين، وإستخلاص الدروس التربوية منها، يغيّر القرآن موضوع الحديث، ويتناول موضوعاً آخر يرتبط بمشركي مكّة آنذاك، ويستعرض لنا أنماطاً مختلفة من شركهم ويحاكمهم بشدّة، ثمّ يدحض بالأدلّة القاطعة أفكارهم الخرافية.

والقضيّة هي أنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحيّة تفكيرهم كانوا يقيسون الله عزّوجلّ بأنفسهم، ويقولون: إنّ لله عزّوجلّ أولاداً، وأحياناً يقولون: إنّ له زوجة.

قبائل (جهينة) و (سليم) و (خزاعة) و (بني مليح) كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هي بنات الله عزّوجلّ، ومجموعة اُخرى من المشركين كانت تعتقد أنّ (الجنّ) هم أولاد الله عزّوجلّ، فيما قال البعض الآخر: إنّ (الجنّ) هم زوجات الله عزّوجلّ.

الأوهام الخرافية هذه، كانت السبب الرئيسي لإنحرافهم عن طريق الحقّ بصورة زالت معها كلّ آثار التوحيد والإعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى من قلوبهم.

وقد ورد في أحد الأحاديث أنّ النمل يتصوّر أنّ لخالقه قرنين إثنين مثلما هي تمتلك.

نعم، العقل الناقص للإنسان يدفعه إلى المقارنة، المقارنة بين الخالق والمخلوق، وهذه المقارنة من أسوأ الأسباب التي تؤدّي بالإنسان إلى الضلال عن معرفة الله.

على أيّة حال، فالقرآن الكريم يردّ على الذين يتصوّرون أنّ الملائكة هي بنات الله بثلاث طرق، أحدها تجريبي، والآخر عقلي، والثالث نقلي، وفي البداية يقول، اسألهم هل أنّ الله تعالى خصّ نفسه بالبنات، وخصّهم بالبنين، (فاستفتهم ألربّك البنات ولهم البنون).

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله، حيث أنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدّة ويحبّون الأولاد كثيراً، فالأولاد كان لهم دوراً مؤثّراً خلال الحرب والإغارة على بقيّة القبائل، في حين أنّ البنات عاجزات عن تقديم مثل هذه المساعدة.

ومن دون أي شكّ فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية، ومن حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون، وميزان شخصيتهم هو التقوى والطهارة، وإستدلال القرآن هنا إنّما يأتي من باب (ذكر مسلّمات الخصم) ومن ثمّ ردّها عليه. وشبيه هذا المعنى ورد في سور اُخرى من سور القرآن، ومنها ما جاء في الآية (21 و22) من سورة النجم (ألكم الذكر وله الاُنثى. تلك إذاً قسمة ضيزى)!.

ثمّ ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه، وبشكل إستفهام إستنكاري، قال تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون).

ومن دون أي شكّ فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي، إذ لم يستطع أحداً منهم الإدّعاء بأنّه كان موجوداً أثناء خلق الملائكة.

مرّة اُخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول: (ألا إنّهم من إفكهم ليقولون. ولد الله وإنّهم لكاذبون. إصطفى البنات على البنين).

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون: (ما لكم كيف تحكمون)؟

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟ (أفلا تذكرون)؟

إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية، ويتفكّر في الأمر جيّداً، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان إدّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي، حيث يقول القرآن الكريم مخاطباً إيّاهم: لو كان ما تزعمونه صحيحاً لذكرته الكتب السابقة، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه، (أم لكم سلطان مبين).

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب (فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين).

هذا الإدّعاء في أي كتاب موجود؟ وفي أي وحي مذكور؟ وعلى أي رسول نزل؟

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون. أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون).

كلاّ، إنّها لم ترد في الكتب السماوية، بل انّها خرافات إنتقلت من جيل إلى جيل ومن جهلة إلى آخرين، وإنّها دعاوي مرفوضة ولا أساس لها، كما اُشير إليها في نهاية الآيات المذكورة أعلاه (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون).

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اُخرى من خرافات مشركي العرب، والتي تزعم بوجود نسبة بين الله عزّوجلّ والجنّ، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة وإنّما تخاطبهم بضمير الغائب، لأنّهم اُناس تافهون، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً).

فما هي النسبة الموجودة بين الله والجن؟

وردت عدّة تفاسير مختلفة لهذا السؤال، منها:

قال البعض: إنّهم كانوا ثنويين، ويعتقدون (نعوذ بالله) أنّ الله والشيطان إخوة، الله خالق المحبّة، والشيطان خالق الشرور.

وهذا التّفسير مستبعد، لأنّ المذهب الثنوي لم يكن معروفاً عند العرب، بل كان منتشراً في إيران خلال عهد الساسانيين.

واعتبر البعض الآخر الجنّ هم نفس الملائكة، لأنّ الجنّ موجودات لا تدركها الأبصار، والملائكة كذلك، ولذلك أطلقوا كلمة "الجنّ" عليها. إذاً، فالمراد من النسبة هي النسبة التي كان يدّعيها عرب الجاهلية من أنّ الملائكة بنات الله.

ويرد على هذا التّفسير أنّ ظاهر آيات بحثنا انّها تبحث في موضوعين، إضافةً إلى أنّ إطلاق كلمة (الجنّ) على الملائكة غير وارد وخاصّة في القرآن الكريم.

وهناك تفسير ثالث يقول: إنّهم كانوا يعتبرون (الجنّ) زوجات الله، فيما يعتبرون الملائكة بناته.

وهذا التّفسير مستبعد أيضاً، لأنّ إطلاق كلمة "نسب" على الزوجة غير وارد.

والتّفسير الذي يعدّ أنسب من الجميع، هو أنّ المراد من كلمة (نسب) كلّ أشكال الرابطة والعلاقة، حتّى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّها شركاء لله، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.

على أيّة حال، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدّة، ويقول: إنّ الجنّ الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله، يعلمون جيّداً أنّ المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون (ولقد علمت الجنّة إنّهم لمحضرون).

والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي: إنّ الجنّ الذين يغوون الناس يعلمون أنّهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.

ولكن التّفسير الأوّل يعدّ أنسب(1).

ونزّه الله تعالى نفسه عمّا قاله اُولئك الضالّون في صفاته تعالى، قائلا: (سبحان الله عمّا يصفون). وإستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة، قال تعالى: (إلاّ عباد الله المخلصين).

وبهذا الشكل فإنّ من النادر أن نسمع اُناساً عاديين يصفون الله سبحانه وتعالى وصفاً لائقاً، كما يصفه عباده المخلصون، العباد الخالصون من كلّ أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال، والذين لا يصفون الباري عزّوجلّ إلاّ بما سمح لهم به(2).

وحول عبارة (عباد الله المخلصين) فقد كان لنا بحث في نهاية الآية (128) من هذه السورة.

نعم، فلمعرفة الله لا ينبغي اتّباع الخرافات الواردة عن أقوام الجاهلية التي يخجل الإنسان من ذكرها، بل يجب اتّباع العباد المخلصين الذين يتحدّثون بأحاديث تجعل روح الإنسان محلّقة في عنان السماء، وتذيبها في أنوار الوحدانية، وتطهّر القلب من كلّ شائبة شرك، وتمحو كلّ تجسيم وتشبيه لله من ذهن الإنسان.

ينبغي لنا مراجعة كلمات الرّسول الأكرم (ص) وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وأدعية الإمام زين العابدين (ع) في صحيفته، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنين (ع)، يقول في إحدى كلماته: "لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عمّا يقوله المشبهون والجاحدون له علوّاً كبيراً"(3).

وفي مكان آخر يصف الله عزّوجلّ بالقول: "لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، ولا يتغيّر بحال، ولا يتبدّل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيّام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حدّ ولا نهاية، ولا إنقطاع ولا غاية"(4).

وفي مكان ثالث يقول: "ومن قال فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة"(5).

أمّا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، فقد قال في صحيفته السجّادية: "الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين"(6).

نعم، فلمعرفة الله جيّداً علينا مراجعة نهج هؤلاء (عباد الله المخلصين) ودراسة علوم معرفة الله في مدارسهم.


1- الضمير (هم) يعود في الحالة الاُولى على المشركين، وفي الحالة الثانية على (الجنّ).

2- وفقاً لهذا التّفسير، فإنّ عبارة (إلاّ عباد الله) إستثناء منقطع من ضمير (يصفون)، والبعض قال: إنّه إستثناء منقطع من ضمير (محضرون) كما ذكروا آراء مختلفة اُخرى، ولكن الرأي الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فهو إستثناء منقطع.

3- نهج البلاغة، الخطبة 49.

4- نهج البلاغة، الخطبة 186.

5- نهج البلاغة، الخطبة 1.

6- الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية.