الآيات 37 - 40

﴿وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37)وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَك يَسْبَحُونَ (40)﴾

التّفسير

هذه الآيات تتحدّث في قسم آخر من آثار عظمة الله في عالم الوجود، وحلقة اُخرى من حلقات التوحيد التي مرّ منها في الآيات السابقة ما يتعلّق بالمعاد وإحياء الأرض الميتة، ونمو النباتات والأشجار.

تقول الآية الكريمة الاُولى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون).

"نسلخ" من مادّة (سلخ) وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان، والتعبير في الآية تعبير لطيف، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل، يُنزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي، والتأمّل في هذا التعبير يوضّح هذه الحقيقة، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها تأتيها من مصدر آخر، فهو كاللباس الذي يرتدى، وحينما يُخلع ذلك الثوب، يظهر اللون الطبيعي للبدن(1).

هنا يشير القرآن الكريم إلى ظلمة الليل، وكأنّه يريد- بعد أن تعرّض إلى كيفية إحياء الأرض الميتة كآية من آيات الله في الآيات السابقة- أن يعرض نموذجاً عن الموت بعد الحياة من خلال مسألة تبديل النور بظلمة الليل.

على كلّ حال، فعندما يستغرق الإنسان في ظلمة الليل، ويتذكّر النور وبركاته ونشاطه ومنبعه يتعرّف- بتأمّل يسير- على خالق النور والظلام.

الآية التي بعدها تتعرّض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس فتقول: (والشمس تجري لمستقر لها)(2).

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر، أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ فللمفسّرين أقوال متعدّدة:

قال بعضهم: إنّ ذلك إشارة إلى حركة الشمس الظاهرية حول الأرض، تلك الحركة التي ستستمر إلى آخر عمر العالم الذي هو نهاية عمر الشمس ذاتها.

وقال آخرون: إنّه إشارة إلى ميل الشمس في الصيف والشتاء نحو الشمال والجنوب على التوالي، لأنّنا نعلم بأنّ الشمس تميل عن خطّ إعتدالها في بدء الربيع بطرف الشمال، لتدخل في مدار (23) درجة شمالا، وتعود مع بدء الصيف قليلا قليلا حتّى تنتهي إلى خطّ إعتدالها عند بداية الخريف وتستمر على خطّ سيرها ذلك باتّجاه الجنوب حتّى بدء الشتاء، ومن بدء الشتاء تتحرّك باتّجاه خطّ إعتدالها حتّى تبلغ ذلك عند بدء الربيع. وبديهي أنّ جميع تلك الحركات في الواقع ناجمة عن حركة الأرض حول الشمس وإنحرافها عن خطّ مدارها، وان كانت ظاهراً تبدو وكأنّها حركة الشمس.

وآخرون اعتبروا الآية إشارة إلى حركة الشمس الموضعية بالدوران حول نفسها، حيث أثبتت دراسات العلماء بشكل قطعي أنّ الشمس تدور حول نفسها(3).

وآخر وأحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية، هو ما كشفه العلماء أخيراً من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءاً منها، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّاً أطلقوا عليه اسم "وجا".

كلّ هذه المعاني المشار إليها لا تتضارب فيما بينها، ويمكن أن تكون جملة "تجري" إشارة إلى جميع تلك المعاني ومعاني اُخرى لم يصل العلم إلى كشفها، وسوف يتمّ كشفها في المستقبل.

وعلى كلّ حال، فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي، ليس مقدوراً لغير الله سبحانه الذي تفوق قدرته كلّ قدرة وبعلمه اللامتناهي، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها (ذلك تقدير العزيز العليم).

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشىء عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاماً وبرنامجاً معيّناً يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي.

لذا فإنّ الآية التالية تتحدّث عن حركة القمر ومنازله التي تؤدّي إلى تنظيم أيّام الشهر، وذلك لأجل تكميل البحث السابق، فتقول الآية: (والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم).

المقصود بـ (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في "المحاق" والظلام المطلق. لأنّ القمر يمكن رؤيته في السماء إلى اليوم الثامن والعشرين، ولكنّه يكون في ذلك اليوم هلالا ضعيفاً مائلا لونه إلى الإصفرار، ويكون نوره قليلا وشعاعه ضعيفاً جدّاً، وفي الليلتين الباقيتين من الثلاثين يوماً تنعدم رؤيته تماماً ويقال: إنّه في دور (المحاق)، ذلك إذا كان الشهر ثلاثين يوماً، أمّا إذا كان تسعة وعشرين يوماً، فإنّ نفس هذا الترتيب سيبدأ من الليلة السابعة والعشرين ليدخل بعدها القمر في (المحاق).

تلك المنازل محسوبة بدقّة كاملة، بحيث أنّ المنجّمين منذ مئات السنين يستطيعون أن يتوقّعوا تلك المنازل ضمن حساباتهم الدقيقة.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة، ومن جهة اُخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته. بحيث أنّ أيّ إنسان يستطيع بقليل من الدقّة والدراية في أوضاع القمر خلال الليالي المختلفة .. يستطيع بنظرة واحدة أن يحدّد بدقّة أو بشكل تقريبي أيّة ليلة هو فيها.

ففي الليلة الاُولى يظهر الهلال الضعيف وطرفاه إلى الأعلى، ويزداد حجمه ليلة بعد ليلة حتّى الليلة السابعة حيث تكتمل نصف دائرة القمر، ثمّ تستمر الزيادة حتّى تكتمل الدائرة الكاملة للقمر في الليلة الرابعة عشرة ويسمّى حينئذ "بدراً". ثمّ يبدأ بالتناقص تدريجياً حتّى الليلة الثامنة والعشرين حيث يصبح هلالا باهتاً يشير طرفاه إلى الأسفل.

نعم، فإنّ النظم يشكّل أساس حياة الإنسان، والنظم بدون التعيين الدقيق للزمن ليس ممكناً، لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى قد وضع لنا هذا التقويم الدقيق للشهور والسنين في كبد السماء.

بعد إستعراضنا لأشكال القمر ومنازله يتّضح تماماً معنى الجملة التالية (حتّى عاد كالعرجون القديم)(4).

وفي الحقيقة فإنّ الشبه بين العرجون والهلال من جوانب عديدة: من ناحية الشكل الهلالي، ومن ناحية اللون الأصفر، والذبول، وإشارة الأطراف إلى الأسفل، وكونه في وسط دائرة مظلمة تكون في حالة العرجون منسوبة إلى سعف النخل الأخضر، وبالنسبة للهلال منسوبة إلى السماء المظلمة.

والوصف بـ (القديم) إشارة إلى كون العرجون عتيقاً، فكلّما مرّ عليه زمن وتقادم أكثر أصبح ضعيفاً وذابلا واصفّر لونه وأصبح يشبه الهلال كثيراً قبل دخوله المحاق.

وسبحان الله فقد تضمّن تعبير واحد قصير كلّ تلك الظرافة والجمال؟

الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدّث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور، والنهار والليل، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى إضطراب أو إختلال في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر وإنتظم بشكل كامل، تقول الآية: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون).

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها إثنتي عشرة مرّة، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

كما أنّ الليل لا يتقدّم على النهار، بحيث يدخل جزء منه في النهار، فيختلّ النظام الموجود، بل إنّهما- على مدى ملايين السنين- ثابتان على مسيرهما دون أدنى تغيير.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث، هي الحركة بحسب حِسّنا بها، والملفت للنظر هنا، هو أنّ هذا التعبير عن حركة الشمس ظلّ يستعمل حتّى بعد أن ثبت للجميع بأنّ الشمس هي المركز الثابت لحركة الأرض حولها، فمثلا يقال: إنّ الشمس قد تحوّلت إلى برج الحمل، أو يقال: وصلت الشمس إلى دائرة نصف النهار، أو أنّ الشمس بلغت الميل الكامل (الميل الكامل هو بلوغ الشمس إلى أقصى نقطة إرتفاع لها في نصف الكرة الأرضية الشمالي في بداية الصيف أو بالعكس أدنى نقطة إنخفاض في بداية الشتاء).

هذه التعبيرات تدلّل دوماً على أنّه حتّى بعد أن تمّ الكشف عن دوران الأرض حول الشمس وثبات الأخيرة ظلّت تستخدم، لأنّ النظر الحسّي يستشعر حركة الشمس وثبات الأرض، ومن هنا تستعمل هذه التعبيرات، وعلى هذا أيضاً يكون قوله تعالى: (وكلّ في فلك يسبحون).

كذلك يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها، حيث أنّ الثابت علمياً حالياً أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ "فلك" كما يقول أرباب اللغة بمعنى: بروز وإستدارة ثدي البنت، ثمّ اُطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاُخرى أيضاً، ومنه اُطلق على مسير الكواكب الدوراني.

جملة (كلّ في فلك يسبحون) في إعتقاد الكثير من المفسّرين، إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والنجوم الاُخرى التي تتّخذ لنفسها مسارات ومدارات، وإن لم يرد ذكر النجوم في الآية، ولكن بملاحظة ذكر "الليل" وإقتران ذكر النجوم مع القمر والشمس، لا يستبعد المعنى المذكور، خاصّة وأنّ "يسبّحون" ورد بصيغة الجمع.

وكذلك يحتمل أن تكون الجملة إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار، لأنّ كلا من الليل والنهار له مدار خاص، ويدور حول الأرض بدقّة، فالظلام يغطّي نصف الكرة الأرضية دوماً، والنور يغطّي النصف الآخر منها، وهما يتبادلان المواضع خلال أربع وعشرين ساعة ويتمّان دورة كاملة حول الأرض.

"يسبّحون" من مادة "سباحة" وهي كما يقول "الراغب" في المفردات: المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!" ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها، وقد ثبت حالياً أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.

بحوث

1- حركة الشمس (الدورانية) و (الجريانية)

"الدوران" لغةً يطلق على الحركة المغزلية، في حال أنّ "الجريان" يطلق على الحركة الطولية، والملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه، نسبت الحركتين إلى الشمس، فقالت: (والشمس تجري) ... و (كلّ في فلك يسبحون).

كانت المحافل العلمية أيّام نزول الآية متمسّكة بنظرية "بطليموس" التي كانت تقول بأنّ الأجرام السماوية ليس فيها حركة دورانية، بل إنّ باطن الأفلاك التي تتكوّن من أجسام بلّورية متراكمة على بعضها البعض كتراكم طبقات البصلة وثابتة، وحركتها تتبع حركة أفلاكها، وعليه فلم يكن في تلك الأيّام معنى لا لجريان الشمس ولا غيره.

أمّا بعد أن تداعت الاُسس التي تقوم عليها فرضية بطليموس في ضوء الإكتشافات الجديدة في القرون الأخيرة، وتحرّرت الأجرام السماوية من قيد الأفلاك البلورية، فقد قويت نظرية كون الشمس هي مركز المنظومة الشمسية، وهي ثابتة وجميع المنظومة الشمسية تدور حولها.

هنا أيضاً لم تكن تعبيرات الآيات أعلاه مفهومة فيما يتعلّق بحركة الشمس الطولية والدورانية حتّى أثبت العلم بتطوّره عدّة حركات للشمس في العقود الأخيرة. وهي:

حركة الشمس الموضعية حول نفسها.

حركة الشمس الطولية مع المنظومة الشمسية باتّجاه نقطة محدّدة في السماء.

وحركتها الدورانية مع المجرّة التي تتبعها وبذا ثبتت معجزة علمية اُخرى للقرآن.

ولتوضيح هذه المسألة نورد ما ورد في إحدى دوائر المعارف حول حركة الشمس:

للشمس حركة ظاهرية واُخرى واقعية، وتشترك الشمس في الحركة الظاهرية- اليومية- فهي تشرق من مشرق نصف الكرة الأرضي الذي نعيش فيه، وتمرّ في طرف الجنوب من نصف النهار ثمّ تغرب من المغرب، وعبورها من نصف النهار يشخّص الظهر الحقيقي- الزوال- .

وللشمس أيضاً حركة ظاهرية اُخرى- سنوية- حول الأرض بحيث أنّها تقترب من المشرق درجة واحدة كلّ يوم، وفي هذه الحركة تمرّ الشمس مقابل الأبراج مرّة واحدة كلّ عام، ومدار هذه الحركة يقع على صفحة "دائرة البروج" ولهذه الحركة أهميّة عظمى في علم الفلك، فظاهرة "الإعتدالين" و "الإنقلاب" و"الميل الكلّي" كلّها مرتبطة بهذا العلم، وعلى أساس ذلك يحسب العام الشمسي.

علاوةً على هذه الحركات الظاهرية فإنّ للشمس حركة دورانية في المجرّة، فالشمس تنطلق بسرعة دورانية في الفضاء تعادل مليون ومائة وثلاثين ألف كيلومتر في الساعة!! وفي داخل المجرّة فهي ليست ثابتة أيضاً، بل إنّها أيضاً تدور بسرعة تقارب إثنين وسبعين الف كيلومتر في الساعة ضمن المجموعة النجمية المسمّاة "الجاثي على ركبتيه"(5).

وعدم علمنا بتلك الحركة السريعة للشمس هو بُعد الأجرام السماوية، والذي هو المانع من تشخيص تلك الحركة الموضعية أيضاً.

دورة الحركة الوضعية للشمس على محورها تستغرق حدود الخمسة وعشرين يوماً بلياليها(6).

2- تعبير "تدرك" و "سابق"

إنّ التعبيرات القرآنية إستعملت بدقّة متناهية لا يمكن الإحاطة بجميع أبعادها. ففي الآيات أعلاه حينما تتحدّث عن الحركة الظاهرية للقمر والشمس خلال المسيرة الشهرية والسنوية تقول: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر). إذ أنّ القمر ينهي مسيرته في شهر واحد بينما الشمس في عام كامل.

أمّا حينما تحدّثت عن الليل والنهار قالت: (ولا الليل سابق النهار) لعدم وجود فاصلة بينهما ولتعاقبهما. فالتعابير غاية في الدقّة.

3- نظام النور والظلام في حياة البشر:

تعرّضت الآيات أعلاه إلى موضوعين من أهمّ المواضيع المتعلّقة بحياة البشر.

على أنّهما آيتان من آيات الله وهما مسألة ظلمة الليل ومسألة الشمس ونورها.

قلنا سابقاً أنّ النور من ألطف وأكثر موجودات العالم المادّي بركة. وليس لإضاءتنا ومعيشتنا فقط فكلّ حركة ونشاط مرتبط بنور الشمس، نزول قطرات المطر، نمو النباتات، تفتّح البراعم، نضوج الثمار والفواكه، خرير الجداول، تلوين مائدة الطعام بأنواع المواد الغذائية، وحتّى حركة عجلة المصانع العظيمة، وتوليد الطاقة الكهربائية، وأنواع المنتجات الصناعية، كلّها تعود في أصلها إلى هذا المنبع العظيم للطاقة، أي نور الشمس.

وخلاصة القول فإنّ جميع الطاقات على سطح الكرة الأرضية- عدا الطاقة الناجمة عن تفجير الذرّة- جميعها تستمدّ وجودها من نور الشمس، ولولا الأخير لخيّم الصمت والموت على كلّ مكان.

ظلمة الليل مع أنّها تذكر بالموت والفناء، فإنّها تعدّ من الاُمور الحياتية الهامّة في حياة البشر، لأنّها تعدل نور الشمس وتؤثّر عميقاً في راحة جسم وروح الإنسان، والمنع من المخاطر الناجمة عن تسلّط أشعّة الشمس بشكل متواصل ومستمر، بحيث لو لم يكن الليل عقيب النهار لأرتفعت درجة الحرارة على سطح الأرض إلى درجة أنّ الأشياء جميعاً تأخذ بالإشتعال والإحتراق، كذلك في القمر حيث الليالي والأيّام طويلة (كلّ ليلة هناك تعادل حوالي خمسة عشر يوماً بلياليها على الأرض، كذلك الحال بالنسبة للنهار) فحرارة النهاره قاتلة، وبرودة مجمّدة.

وعليه فإنّ كلا من "النور والظلام" آية إلهية عظيمة.

ناهيك عن أنّ النظام المتناهي الدقّة الذي يحكمهما، أدّى إلى تنظيم تأريخ حياة البشر، ذلك التأريخ الذي لولا وجوده لتفتتت الروابط الإجتماعية، وأصبحت الحياة بالنسبة إلى البشر أشبه بالمستحيل، وبذا فإنّ كلا من "النور والظلام" آيتان إلهيتان من هذه الناحية أيضاً.

والملفت للنظر هنا هو قول القرآن الكريم: (ولا الليل سابق النهار). وهذا التعبير يدلّل على أنّ النهار خلق قبل الليل، والليل بعده تماماً، فلو أنّ أحداً نظر من خارج الكرة الأرضية فسيرى موجودين أسود وأبيض يدوران بشكل مرتّب حول الأرض، وفي مثل هذه الحركة الدائرية لا يمكن تصوّر القبل والبعد فيها. ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ الأرض التي نعيش عليها كانت يوماً ما جزءاً من الشمس، وفي ذلك الوقت لم يكن سوى النهار، ولا وجود لليل، ثمّ بعد أن انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس وإبتعدت تكون لها ظلّ مخروطي الشكل من الجهة المخالفة للشمس فكأنّ الليل، الليل الذي أصبحت حركته بعد النهار، نعم، لو توجّهنا لكلّ ذلك لاتّضحت دقّة ولطافة هذا التعبير.

وكما قلنا سابقاً فليس الشمس والقمر وحدهما يسبحان في هذا الفضاء المترامي، بل إنّ الليل والنهار أيضاً يسبحان حول الكرة الأرضية، وكلّ منهما له مدار ومسير دائري.

وقد ورد في روايات متعدّدة عن أهل البيت (ع) التصريح بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق النهار قبل الليل. فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال جواباً على سؤال في حديث طويل: "نعم خلق النهار قبل الليل، والشمس والقمر والأرض قبل السماء"(7).

وعن الإمام الرضا (ع) أنّه قال: "فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) أي قد سبقه النهار"(8).

وورد نفس المعنى عن الإمام الباقر (ع) حين قال: "إنّ الله عزّوجلّ خلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة"(9).


1- الراغب في "المفردات" يقول: السلخ نزع جلد الحيوان، يقال سلخته فانسلخ، وعنه استعير سلخت درعه نزعتها، وسلخ الشهر وانسلخ، ولكن بعض المفسّرين يقولون: إنّ ذلك في حالة تعدّي "سلخ" بحرف الجرّ "عن" وإذا تعدّى بالحرف "من" يكون بمعنى الإخراج، ولكن ليس من دليل واضح في كتب اللغة على هذا التفاوت ـ على ما نعلم ـ وإن كان "لسان العرب" يقول: "إنسلخ النهار من الليل خرج منه خروجاً" والظاهر أنّ هذا مأخوذ من المعنى الأوّل.

2- هذه الجملة لها إعرابان، فإمّا أن تكون معطوفة على "الليل" والتقدير "وآية لهم الشمس"، وإمّا أن تكون مبتدأ وخبر، فالشمس مبتدأ و (تجري) خبر، وقد اخترنا الإعراب الأوّل.

3- طبق هذا التّفسير فإنّ (اللام) في "لمستقر لها" بمعنى "في" ويكون التقدير "في مستقر لها".

4- "عرجون" كما قال أغلب المفسّرين وأهل اللغة: من الإنعراج وهو الإعوجاج والإنعطاف، وعليه فالنون زائدة وهو على وزن فعلون، ويعتقد آخرون أنّه مأخوذ من "عرجن" فالنون ليست زائدة، وبمعنى: أصل عنقود الرطب المتّصل بالنخلة، وتوضيح ذلك أنّ الرطب يظهر على شكل عنقود من النخلة، وأصل ذلك العنقود يكون على شكل مقوّس أصفر اللون يبقى معلّقاً في النخلة، و "قديم": بمعنى العتيق الذي مضى زمنه.

5- "الجاثي على ركبتيه": مجموعة من النجوم التي تتشاكل فيما بينها لترسم صورة شخص جاث على ركبتيه، ومنه اُخذت التسمية.

6- أي أنّ الشمس في كلّ خمس وعشرين يوماً من أيّامنا تدور دورة واحدة حول نفسها، وقد شُخصت هذه المسألة من مراقبة العلماء للبقع الموجودة على سطح الشمس، فقد لوحظ أنّها تتبادل مواقعها ثمّ تعود كما كانت خلال هذه المدّة.

7- نور الثقلين، ج4، ص387، ح55.

8- نور الثقلين، ج4، ص387، ح53.

9- نور الثقلين، ج4، ص387، ح54.