الآيات 39 - 41

﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـئِفَ فِى الاَْرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَـفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَـفِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً (39) قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الاَْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَوَتِ أَمْ ءَاتَيْنَـهُمْ كِتَـباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَت مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّـلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)﴾

التّفسير

السماوات والأرض بيد القدرة الإلهية:

تنتقل الآيات إلى مرحلة اُخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفّار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول أوّلا: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض).

"خلائف" هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي الله في الأرض، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين (وإن كان المعنى الثاني هنا أقرب على ما يبدو) فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث أنّه قيّض لهم جميع إمكانات الحياة. أعطاهم العقل والشعور والإدراك، أعطاهم أنواع الطاقات الجسدية، ملأ للإنسان صفحة الأرض بمختلف أنواع النعم والبركات، وعلّمه طريقة الإستفادة من تلك الإمكانات، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي، وراح يعبد آلهة خرافية ومصنوعة؟!

هذه الجملة في الحقيقة بيان لـ "توحيد الربوبية" الذي هو دليل على "توحيد العبادة". وهذه الجملة أيضاً تنبيه للبشر جميعاً ليعلموا بأنّ مكثهم ليس أبديّاً ولا خالداً، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين، فما هي إلاّ مدّة حتّى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم، لذا فإنّ عليهم أن يتأمّلوا ويفكّروا ماذا يعملون خلال هذه المدّة القصيرة، وكيف سيذكرهم التأريخ في هذا العالم؟

لذا تردف الآية قائلة: (فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربّهم إلاّ مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خساراً).

الجملتان الأخيرتان في الواقع تفسير الجملة (من كفر فعليه كفره) فهما تقيمان دليلين على رجوع الكفر على صاحبه كالآتي:

الأوّل: إنّ هذا الكفر يؤدّي إلى غضب الله الذي أعطى كلّ هذه المواهب.

والثاني: أنّه علاوة على هذا الغضب الإلهي فإنّ هذا الكفر سوف لن يزيد الظالمين إلاّ خسارة وضرراً بإتلافهم رأس مالهم المتمثّل بأعمارهم ووجودهم، وشرائهم للشقاء والإنحطاط والظلمة، وأي خسارة أكثر من هذه.

وكلّ واحد من هذين الدليلين كاف لشجب وإبطال ذلك المنهج الباطل في التعامل مع الحياة.

تكرار (لا يزيد) بصيغة المضارع، إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان الميّال بالطبع إلى البحث عن الزيادة، إذا سار في طريق التوحيد فسيزداد سعادة وكمالا، وإذا سلك طريق الكفر فسوف يتعرّض لمزيد من غضب الباري عزّوجلّ ويكون نصيبه الضرر والخسارة.

من الجدير بالذكر أيضاً أنّ الغضب الإلهي ليس بمعنى الغضب الذي يحصل للإنسان، لأنّ هذا الغضب في الإنسان عبارة عن نوع من الهيجان والإنفعال الداخلي الذي يكون سبباً في صدور أفعال قويّة وحادّة وخشنة، وفي تعبئة كافّة طاقات الإنسان للدفاع أو الإنتقام، وأمّا بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فليس لأيّ من هذه الآثار التي هي من خواص الموجودات المتغيّرة والممكنة أثر في غضبه، فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول اُولئك الذين ارتكبوا السيّئات.

الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم، وتذكّرهم بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمراً أو تعلّق بأمر، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر، أو دليل نقلي ثابت، وأنتم أيّها الكفّار حيث لا تملكون أيّاً من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور.

تقول الآية الكريمة: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات)(1) فهل خلقوا شيئاً في الأرض. أم شاركوا الله في خلق السماوات؟!

ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها، لأنّ كون الشيء معبوداً فرع كونه خالقاً، فما دمتم تعلمون أنّ خالق السماوات والأرض هو الله تعالى وحده، فلن يكون هناك معبود غيره، لأنّ توحيد الخالقية دليل على توحيد العبودية.

والآن بعد أن ثبت أنّكم لا تملكون دليلا عقلياً على ادّعائكم، فهل لديكم دليل نقلي؟ (أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه).

كلاّ، فليس لديهم أي دليل أو بيّنة أو برهان واضح من الكتب الإلهية، إذاً فليس لديهم سوى المكر والخديعة (بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً).

وبتعبير آخر، إذا كان لعبدة الأوثان وسائر المشركين من كلّ مجموعة وكلّ صنف إدّعاء بقدرة الأصنام على تلبية مطالبهم، فعليهم أن يعرضوا نموذجاً لخلقهم من الأرض، وإذا كانوا يعتقدون أنّ تلك الأصنام مظهر الملائكة والمقدّسين في السماء- كما يدّعي البعض- فيجب أن يقيموا الدليل على أنّهم شركاء في خلق السماوات .. وان كانوا يعتقدون بأنّ هؤلاء الشركاء ليس لهم نصيب في الخلقة، بل لهم مقام الشفاعة- كما يدّعي البعض- فيجب أن يأتوا بدليل على إثبات ذلك الإدّعاء من الكتب السماوية.

والحال أنّهم لا يملكون أيّاً من هذه البيّنات، فهم مخادعون ظالمون ليس لهم سوى المكر وخديعة بعضهم البعض.

الجدير بالملاحظة أيضاً هو المقصود بـ "الأرض والسموات" هنا هو مجموعة المخلوقات الأرضية والسماوية، والتعبير بـ (ماذا خلقوا من الأرض) و (شرك في السموات) إشارة إلى أنّ المشاركة في السماوات إنّما يجب أن تكون عن طريق الخلق.

وتنكير "كتاباً"، مع إستناده إلى الله سبحانه، إشارة إلى أنّه ليس هنا أدنى دليل على ادّعائهم في أي من الكتب السماوية.

"بيّنة" إشارة إلى دليل واضح من تلك الكتب السماوية.

"ظالمون" تأكيد مرّة اُخرى على أنّ "الشرك" "ظلم" واضح.

"غرور" إشارة إلى أنّ عبدة الأوثان أخذوا هذه الخرافات بعضهم من بعض، وتلاقفوها إمّا على شكل شائعات، أو تقاليد من بعضهم الآخر.

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية الله سبحانه وتعالى على مجموعة السماوات والأرض، وفي الحقيقة فإنّها تنتقل إلى إثبات توحيد الخالقية والربوبية بعد نفي شركة أي من المعبودات الوهمية في عالم الوجود فتقول: (إنّ الله يمسك السموات والأرض أن تزولا)(2).

فليس بدء الخلق- فقط- مرتبطاً بالله، فإنّ حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته أيضاً، بل إنّ الخلق له في كلّ لحظة خلق جديد، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة بعد اُخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم الفيّاض، فليس إلاّ العدم والفناء.

صحيح أنّ الآية تؤكّد على مسألة حفظ نظام الوجود الموزون، ولكن- كما ثبت من الأبحاث الفلسفيّة- فإنّ الممكنات محتاجة في بقائها إلى موجدها كإحتياجها إليه في بدء إيجادها، وبذلك فإنّ حفظ النظام ليس سوى إدامة الخلق الجديد والفيض الإلهي.

الملفت للنظر أنّ الأجرام والكرات السماوية، مع كونها غير مقيّدة بشيء آخر، إلاّ أنّها لم تبرح أماكنها أو مداراتها التي حدّدت لها منذ ملايين السنين، دون أن تنحرف عن ذلك قيد أنملة، كما نلاحظ ذلك في المجموعة الشمسية، فالأرض التي نعيش عليها تواصل دورانها حول الشمس منذ ملايين بل مليارات السنين في مسيرها المحدّد والمحسوب بدقّة والذي يتحقّق من التوازن بين القوى الدافعة والجاذبة، كما أنّها تدور في نفس الوقت حول نفسها، ذلك بأمر الله.

وللتأكيد تضيف الآية قائلة: (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده).

فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة، ولا غير ذلك، لا أحد غير الله قادر على ذلك.

وفي ختام الآية- لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالّين مفتوحاً يقول تعالى محبّذاً لهم التوبة في كلّ مرحلة من الطريق (إنّه كان حليماً غفوراً).

فبمقتضى (حلمه) لا يتعجّل عقابهم، وبمقتضى (غفرانه) يتقبّل توبتهم- بشرائطها- في أي مرحلة من مراحل مسيرهم، وعليه فإنّ ذيل الآية يشير إلى وضع المشركين وشمول الرحمة الإلهية لهم في حال توبتهم وإنابتهم.

اعتبر بعض المفسّرين أنّ هذين الوصفين ذكرا لإرتباطهما بموضوع حفظ السموات والأرض، إذ أنّ زوالهما مصيبة عظيمة، وبمقتضى حلم الله وغفرانه فإنّه لا يشمل الناس بمثل ذلك العذاب وتلك المصيبة، وإن كانت أقوال وأعمال الكثير من هؤلاء الكفّار موجبة لإنزال ذلك العذاب، كما ورد في الآيات 88 إلى 90 من سورة مريم (وقالوا اتّخذ الله ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّاً).

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ جملة (ولئن زالتا) ليست بمعنى أنّه "إذا زالت فليس أحد غير الله يحفظها"، بل بمعنى "أنّها إذا شارفت على السقوط والزوال فإنّ الله وحده يستطيع حفظها، وإلاّ فلا معنى للحفظ بعد الزوال".

وقد حدث- على طول التاريخ البشري- مراراً أنّ علماء الفلك توقّعوا أنّ "النجم الفلاني" المذنّب أو غير المذنّب سيمرّ بمحاذاة الكرة الأرضية ويحتمل أن يصطدم بها، هذه التوقّعات تدفع جميع الناس إلى القلق، وفي هذه الشرائط يحسّ الجميع بأنّه في مثل حادث كهذا، ليس في إمكان أحد أن يؤثّر شيئاً، بحيث لو إنطلقت إحدى الكرات السماوية باتّجاه الكرة الأرضية وإصطدمتا فيما بينهما بتأثير الجاذبية فلن يبقى للتمدّن البشري أثر، وحتّى الموجودات الاُخرى سوف لن يبقى لها أثر على سطح الأرض، ولن تستطيع أيّة قدرة عدا قدرة الله منع مثل هذه الكارثة من الوقوع.

في مثل تلك الحالات يحسّ الجميع بالحاجة الماسّة والمطلقة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بمجرّد أن تزول إحتمالات الخطر، يلقي النسيان بظلاله على الإنسان.

هذه الكارثة لا تقع فقط من مجرّد إصطدام السيارات مع بعضها، بل إنّ أيّ إنحراف بسيط لأيّ من السيارات- كالأرض مثلا- عن مسارها يؤدّي إلى وقوع فاجعة عظيمة.

ملاحظة

الصغير والكبير سيّان أمام قدرة الله!

الملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه ذكرت أنّ السماوات تستند إلى قدرة الله في ثباتها وبقائها، وفي آيات اُخرى من القرآن ورد نفس التعبير فيما يخصّ حفظ الطيور حال طيرانها في السماء. (ألم يروا إلى الطير مسخّرات في جوّ السماء ما يمسكهنّ إلاّ الله، إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

ففي موضع يشير إلى أنّ خلق السموات الواسعة دليل على وجوده تعالى، وفي موضع آخر يعتبر خلق حشرة صغيرة كالبعوضة دليلا على ذلك.

حيناً يقسم بالشمس لأنّها منبع عظيم للطاقة في عالم الوجود، وحيناً يقسم بفاكهة مألوفة كالتين.

كلّ ذلك إشارة إلى أنّه لا فرق بين كبير وصغير أمام قدرة الله.

أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات والسلام يقول: "وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء".

إنّ هذه الأشياء جميعها تشير إلى شيء واحد، وهو أنّ وجود الله سبحانه وتعالى، وجود لا متناه من جميع الجهات، والتدقيق في مفهوم "اللامتناهي" يثبت هذه الحقيقة بشكل تامّ، وهي أنّ مفاهيم مثل "الصعب" و "السهل" و "الصغير" و"الكبير" و "المعقّد" و "البسيط" لها معنى بحدود الموجودات المحدودة- فقط- ولكن حينما يكون الحديث عن قدرة الله تعالى المطلقة فإنّ هذه المفاهيم تتغيّر بشكل كلّي وتقف جميعاً في صفّ واحد بدون أدنى تفاوت فيما بينها "دقّق النظر!!".


1- جملة "أرأيتم" بمعنى: ألا ترون؟ أو: ألا تفكّرون؟ ولكن بعض المفسّرين يقولون بأنّها بمعنى "أخبروني". وقد أوردنا بحثاً مطوّلا بهذا الخصوص في تفسير آية (40) من سورة الأنعام.

2- جملة "أن تزولا" تقديرها "لئلاّ تزولا" أو "كراهة أن تزولا".