الآيات 33 - 35

﴿جَنَّـتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)﴾

التّفسير

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن:

هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية، يقول تعالى: (جنّات عدن يدخلونها)(1).

"جنّات" جمع "جنّة" بمعنى (الروضة) وكلّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.

و "عدن" بمعنى الإستقرار والثبات، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ "جنّات عدن" بمعنى "جنّات الخلد والدوام والإستقرار".

على كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنّة العظيمة خالدة وثابتة، وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم.

ثمّ تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنّة، بعضها إشارة إلى جانب مادّي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني، وبعض أيضاً يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات، فتقول الآية: (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير).

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها، ولم يجعلوا أنفسهم أسرى لزبرجها، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر، والله سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كلّ ذلك، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.

هؤلاء زيّنوا حياتهم الدنيا بالخيرات، فزيّنهم الله سبحانه وتعالى في يوم تجسّد الأعمال يوم القيامة بأنواع الزينة.

لقد قلنا مراراً بأنّ الألفاظ التي وضعت لهذا العالم المحدود لا يمكنها أن توضّح مفاهيم ومفردات عالم القيامة العظيم، فلأجل بيان نِعم ذلك العالم الآخر نحتاج إلى حروف اُخرى وثقافة اُخرى وقاموس آخر، على أيّة حال، فلأجل توضيح صورة وإن كانت باهتة عن النعم العظيمة في ذلك العالم لابدّ لنا أن نستعين بهذه الألفاظ العاجزة.

بعد ذكر تلك النعمة الماديّة، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصّة فتقول: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن).

فهؤلاء يحمدون الله بعد أن أصبحت تلك النعمة العظيمة من نصيبهم، وتلاشت عن حياتهم جميع عوامل الغمّ والحسرة ببركة اللطف الإلهي، وتبدّدت سحب الهمّ المظلمة عن سماء أرواحهم، فلا خوف من عذاب إلهي، ولا وحشة من موت وفناء، ولا قلق، ولا أذى الماكرين، ولا إضطهاد الجبابرة القساة الغاصبين.

اعتبر بعض المفسّرين ذلك الغمّ والحسرة إشارة إلى نظير ما يتعرّض له في الدنيا، واعتبره البعض الآخر إشارة إلى الحسرة في المحشر على نتائج أعمالهم، ولا تضادّ بين هذين التّفسيرين، ويمكن جمعهما في إطار المفهوم العام للآية.

"الحزن": (على وزن عدم)، و "الحزن"- على وزن عُسر- كليهما لمعنىً واحد كما ذهب إليه أرباب اللغة، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ ويضادّه الفرح(2).

ثمّ يضيف أهل الجنّة هؤلاء (إنّ ربّنا لغفور شكور).

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلاّت والذنوب، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغمّ بظلاله المشؤومة. غفر وستر بغفرانه الكثير الكثير من ذنوبنا، وبشكره أعطانا الكثير الكثير على أعمالنا البسيطة القليلة القليلة!

أخيراً تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقّة والتعب والعذاب، فتحكي عن ألسنتهم (الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب).

الدار الآخرة هناك دار إقامة لا كما في الدنيا حيث أنّ الإنسان ما أن يألف محيطه ويتعلّق به حتّى يقرع له جرس الرحيل! هذا من جانب .. ومن جانب آخر فمع أنّ العمر هناك متّصل بالأبد، إلاّ أنّ الإنسان لا يصيبه الملل أو الكلل، أو التعب أو النصب مطلقاً، لأنّهم في كلّ آن أمام نعمة جديدة، وجمال جديد.

"النصب" بمعنى التعب، و "اللغوب" بمعنى التعب والنصب أيضاً. هذا على ما تعارف عليه أهل اللغة والتّفسير، في حين أنّ البعض فرّق بين اللفظتين فقال بأنّ (النصب) يطلق على المشاقّ الجسمانية، و "اللغوب" يطلق على المشاقّ الروحية(3). أو أنّه الضعف والنحول الناجم عن المشقّة والألم، وبذا يكون "اللغوب" ناجماً عن "النصب"(4).

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة، سواء كانت نفسية أو جسمانية.


1- "جنّات عدن": يمكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره "جزائهم" أو "اُولئك لهم جنّات عدن"، نظير الآية (31 ـ سورة الكهف) بعضهم أيضاً قال: إنّها (بدل) عن "الفضل الكبير"، ولكن باعتبار أنّ "الفضل الكبير" إشارة إلى ميراث الكتاب السماوي، فلا يمكن أن تكون "جنّات" بدلا عنها، إلاّ إذا اعتبرنا المسبّب في مقام السبب.

2- مفردات الراغب.

3- اُنظر تفسير روح المعاني، مجلّد 22، صفحة 184.

4- المصدر السابق.