الآيات 58 - 60
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَرِثِينَ(58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـلِمُونَ(59) وَمَآ أُوتِيتُمْ مِّنْ شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(60) ﴾
التفسير
لا تخدعنكم علائق الدنيا:
كان الحديث في الآيات المتقدمة يدور حول مايدعيه أهل مكّة، وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا، وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والإقتصادي.. وقد أجابت الآيات السابقة على هذا الكلام بردٍّ بليغ.
وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:
الأوّل: يقول.. على فرض أنّكم لم تؤمنوا، وحييتم في ظل الشرك مرفهينماديّاً، ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم (فكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها).
أجل، إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم، والبطر أساس الظلم، والظلم يجرّ حياتهم إلى النّار... (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلا).
بلى... بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلاّ لفترة قليلة (وكنّا نحن الوارثين).
فيا مشركي مكّة... أتريدون أن تعيشوا حياة البطر والكفر كما عاشه أُولئك، وتكون عاقبتكم كعاقبتهم، فأي نفع في ذلك؟!
كلمة "بطرت" مشتقّة من "بطر" على زنة "بشر" ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم.
والتعبير بـ "تلك" التي هي اسم إشارة للبعيد، وتستعمل غالباً للأُمور التي يمكن مشاهدتها، ويحتمل أن يكون المقصود بها أرض "عاد وثمود وقوم لوط" التي لا تبعد كثيراً عن أهل مكّة، وهي في أرض الأحقاف بين اليمن والشام، أو في وادي القرى، أو في أرض سدوم، وجميع هذه المناطق في مسير قوافل التجار العرب الذين كانوا يمضون من مكّة إلى الشام، وكانوا يرون تلك البيوت بأُم أعينهم خالية خاوية لم تسكن إلاّ قليلا.
وجملة (إلاّ قليلا) التي جاءت بصيغة الإستثناء، فيها ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأوّل: أن الإستثناء عن الساكنين.
والاحتمال الثّاني: أنّه عن المساكن.
والاحتمال الثّالث: أنّه عن السكن.
ففي الصورة الأُولى يكون مفهومها أن جماعة قليلة سكنتها "أي سكنت تلك المساكن".
وفي الصورة الثّانية يكون مفهومها أن فترة قليلة كان بها السكن في هذه"المساكن" لأنّ من يسكن في هذه المساكن المشؤومة سرعان ما تنطوي فيها صفحة حياته.
وبالطبع فإنّ إرادة المعاني الثلاثة من النصّ السابق لا يوجد لنا أي مشكلة، وإن كان المفهوم الأوّل أظهر.
كما أن بعض المفسّرين قال: إنّ المقصود من هذه الآية هو الإشارة إلى السكن المؤقت للمسافرين الذاهبين والآيبين حيث يستريحون فيها لا أكثر، وفسرها آخرون بأنّها إشارة لسكن الحيوانات الوحشية.
والقدر المسلم به أن هذه المساكن التي كانت ملوّثة بالإثمّ والشرك أصبحت غير صالحة للسكن فهي خاوية وخالية!
والتعبير بـ (وكنا نحن الوارثين) إشارة إلى خلّوها من الساكنين، كما هي إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء، وإذا ما أعطى ملكاً "اعتبارياً" لأحد، فإنّه لا يدوم له طويلا حتى يرثه الله أيضاً.
والآية الثّانية في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان الأمر كذلك، بأن يهلك الله الطغاة، فلم لم يهلك المشركين من أهل مكّة والحجاز، الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان، ولم يكن إثم ولا جهل إلاّ وارتكبوه، ولم لم يعذبهم الله بعذابه الأليم؟
يقول القرآن في هذا الصدد (وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولا يتلوا عليهم آياتنا).
أجل.. لا يعذب الله قوماً حتى يتمّ عليهم حجّته ويرسل إليهم رسله، وحتى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلم يستوجب العذاب فإنّ الله لا يعذبهم، وهو يراقب أعمالهم، (وما كنا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون).
والتعبير بـ (ما كنّا) أو (وما كان ربك) دليل على أن سنة الله الدائمة والأبدية التي كانت ولا زالت، هي أن لا يعذب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجة الكافية.
والتعبير بـ (حتى يبعث في أمّها رسولا) إشارة إلى عدم لزوم إرسال الرسل إلى جميع المدن، بل يكفي أن يبعث في مركز كبير من مراكزها التي تنشر العلوم والأخبار رسولا يبلغهم رسالاته! لأنّ أهل تلك المناطق في ذهاب وإياب مستمر إلى المركز الرئيسي، لحاجتهم الماسة، وما أسرع أن ينتشرالخبر الذي يقع في المركز إلى بقية الأنحاء القريبة والبعيدة، كما انتشرت أصداء بعثة النّبي(ص)التي كانت في مكّة - وبلغت جميع أنحاء الجزيرة العربية في فترة قصيرة! لأنّ مكّة كانت أم القرى، وكانت مركزاً روحانياً في الحجاز، كما كانت مركزاً تجارياً أيضاً.. فانتشرت أخبار النّبي(ص)، ووصلت جميع المراكز المهمّة في ذلك الحين وفي فترة قصيرة جدّاً.
فعلى هذا تبيّن الآية حكماً كلياً وعامّاً، وما يدّعيه بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى "مكّة" لا دليل عليه، والتعبير بـ (في أمّها) هو تعبير عام كلي أيضاً.. لأنّ كلمة "أم" تعني المركز الأصلي، ولا يختص هذا بمكّة فحسب(1).
وأخر آية من هذا المقطع محل البحث تحمل الردّ الثّالث على أصحاب الحجج الواهية، الذين كانوا يقولون للنّبي(ص): (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) ويبعدنا العرب من ديارنا، وهو قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى) ممّا عندكم من النعيم الفاني.. إذ أنّ نعم الدنيا تشوبها الأكدار والمشاكل المختلفة، ولس من نعمة مادية خالية من الضرر والخطر أبداً.
إضافة إلى ذلك فإنّ النعم التي عند الله "الباقية" لا تقاس مع النعم الدنيوية الزائلة، فنعم الله - إذن - خير وأبقى!.
فبموازنة بسيطة يعرف كل إنسان عاقل أنّه لا ينبغي أن يضحي بنعم الآخرة من أجل نعم الدنيا، ولذلك تختتم الآية بالقول: (أفلا تعقلون)؟.
يقول "الفخر الرازي" نقلا عن أحد الفقهاء أنّه قال: لو أوصى أحد بثلث ماله إلى أعقل الناس، فإني أفتي أن يعطى هذا المال لمن يطيع أمر الله، لإن أعقل الناس من يعطي المتاع القليل، (الفاني) ليأخذ الكثير (الباقي) ولا يصدق هذا، إلاّ في من يطيع الله.
ثمّ يضيف الفخر الرازي.. قائلا: فكأنّما استفاد هذا الحكم من الآية محل البحث(2).
1- الدر المنثور، ج 5، ص 133.
2- راجع في هذا الصددد تفسير الصافي وتفسير البرهان ذيل الآية محل البحث.