الآيات 14 - 17

﴿وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِى الْـمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَة مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِن شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَـثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطـنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِر لَى فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) ﴾

التفسير

موسى (ع) وحماية المظلومين:

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسى(ع) وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى "مدين" ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية (ولمّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماًوكذلك نجزي المحسنين).

كلمة "أشدّ" مشتقّة من مادة "الشدّة" وهي القوّة.

وكلمة "استوى" مشتقة من "الاستواء" ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين:

فقال بعض المفسّرين: المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية، وغالباً ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر.. أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة، وغالباً ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم: إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(ع) في كتاب معاني الأخبار قال: فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال: "أشدّه ثمان عشر سنة واستوى، التحى" (1).

وليس بين هذه التعابير فرق كبير، ومن مجموعها - مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين "الأشدّ والاستواء" - يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين "الحكم" و "العلم" هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير (كذلك نجزي المحسنين) فيدل بصورة جليّة على أن موسى(ع)كان جديراً بهذه المنزلة، نظراً لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة، إذ جازاه الله "بالعلم والحكم" وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما.. لأنّ موسى(ع) يومئذ لم يبعث بعد، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّاً.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح الله هذه الأُمور لموسى(ع) لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفاً.

ويفهم من هذا التعبير - إجمالا - أنّ موسى(ع) لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. رغم أنّ جزئيات تلك الاعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى (دخل المدينة على حين غفلة من أهلها).

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق.. لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر.. وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسى(ع) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجها، حُكم عليه بالتبعيد عن العاصمة.. لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضاً، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون.. لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة (على حين غفلة من أهلها) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تُراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم: هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن أُخرى.. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبي(ص) في هذا الشأن يقول: "تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين".

وقدورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة "وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء" (2).

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل.. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً، وتنشط مراكز الفساد أيضاً في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال، موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه).

والتعبير بـ "شيعته" يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه).

فجاءه موسى(ع) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم.. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية: (فوكزه موسى فقضى عليه)(3).

وممّا لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل، ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسى(ع) أسف على هذا الأمر (قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مبين).

وبتعيبر آخر: فإنّ موسى(ع) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك.

لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(ع) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسى(ع) فيقول: (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم).

ومن المسلم به أنّ موسى(ع) لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان بنبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسى(ع) حين نجا بلطف الله من هذا المأزق (قال ربّ بما أنعمت على) من عفوك عني وانقاذي من يد الاعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن (فلن أكون ظهيراً للمجرمين).

ومعيناً للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين، ويريد موسى(ع) أن يقول: إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً.. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين..".

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ "المجرمين" هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى، إلاّ أن هذا الإحتمال بعيد جدّاً، حسب الظاهر.

مسألتان

1- ألم يكن عمل موسى هذا مخالفاً للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مُذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة.. لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسى(ع) التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول: (هذا من عمل الشيطان).

وفي مكان آخر يقول: (ربّي إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي).

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة، وهو أن ما صدر من موسى(ع) هو من قبيل "ترك الأولى" لا أكثر، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي، فلم يحتط، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمراً هيناً حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأُولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتاً، بل يؤدي إلى ترك عمل أهم وأفضل، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدم(ع) التي تقدم شرحه في ذيل الآية (19) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في تفسير الآياتالمتقدمة:

"قال هذا من عمل الشيطان" يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسى (ع) من قتله "إنّه" يعنى الشيطان "عدوّ مضل مبين" - وأمّا المراد من جملة - "ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي" يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة "فاغفرلي" أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني...".(4)

2 - دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام:

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول "الإعانة على الإثم" و"معاونة الظلمة" وتدل على أن واحداً من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين، وتكون سبباً لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساساً فإنّ الظلمة والمجرمين - أمثال فرعون - في المجتمع أيّاً كان هم أفراد معدودون، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة، فهؤلاء القلّة المتفرعنون.. إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعاً، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النّار).(5)

وسواء كان "الرّكون" هنا بمعنى الميل القلبي، أو بمعنى الإعانة الظاهرية، أو إظهار الرضا والمحبّة، أو طلب الخير لهم.. هذه المعاني التي ذكرها المفسّرين "للركون" يجمعها مفهوم جامع لها، وهو الإتكاء والاعتماد والتعلق وما إلى ذلك، وهذا المفهوم شاهد حي على مقصودنا.

ونقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام على بن الحسين(ع) مع "محمّد بن مسلم الزهري" الذي كان رجلا عالماً، إلاّ أنّه كان يتعاطف ويتعاون مع الجهاز الأموي ولا سيما مع هشام بن عبد الملك، يحذّره الإمام في حديثه هذا من إعانة الظالمين والركون إليهم، وهو حديث مثير جدّاً.. وقد جاء فيه: "أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، سلّماً إلى ظلالتهم، داعياً إلى عينهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذو منك، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول" (6).

والحقّ أنّ هذا المنطق البليغ المؤثر للإمام(ع) لكل عالم من وعّاظ السلاطين مرتبط بالظالمين راكن إليهم، يمكن أن يبصّره بمصيره المشؤوم عاقبته المخزية.

ويذكر ابن عباس أن آية (ربّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين)من جملة الآيات التي تؤكّد على أن الركون للمجرمين ذنب عظيم، وإعانة المؤمنين إطاعة لأمر الله سبحانه.

قالوا لبعض العلماء: إنّ فلاناً أصبح كاتباً للظالم الفلاني، ولا يكتب له إلاّ الدخل والخرج.

وحياته وحياة عائلته مرهونة بما يحصل عليه من مال لقاء هذا العمل، وإلاّ فسيقع هو وأُسرته في فقر مدقع.

فكان جواب هذا العالم: أمّا سمع قول العبد الصالح "موسى" (ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين)(7).


1- تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 116.

2- تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة "تقرّ عينها" في ذيل الآية "74" من سورة الفرقان - فيراجع هناك.

3- الشعراء، الآية 18.

4- لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج 4، ص 117.

5- تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 117.

6- وسائل الشيعة، ج 5، ص 249 باب 20 من أبواب الصلوات المندوبة.

7- "وكز" مآخوذ من "الوكز" على زنة "رمز" ومعناه الضرب بقبضة اليد، وهناك معان اُخرى لا تناسب المقام..