الآيات 10 - 13

﴿وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فـرِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّيْهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَـهُ إلى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (13) ﴾

التفسير

عودة موسى إلى حضن أُمّه:

في هذه الآيات تتجسدُ مشاهد جديدة.. فأمُّ موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً.. اقتحم قلبها طوفان شديدٌ من الهمّ على فراق ولدها، فقد اصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها و تذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم (وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين).

"الفارغ" معناه الخالي، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى.. وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أُم موسى من قبل، ولكن مع الإلتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماماً أنّ أُمّاً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلاّ ولدها الرضيع، ويبلغ بها الذهول درجةً لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أُم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم أنّه بعين الله، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّاً.

كلمة "ربطنا" من مادة "ربط" ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ "الرباط" ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط: الحفظ والتقوية والإستحكام، والمقصود من "ربط القلب" هنا تقويته.. أي تثبيت قلب أم موسى، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالإطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره (وقالت لأخته قصّيه).

كلمة "قصّيه" مأخوذة من مادة "قصّ" على زنة "نصَّ" ومعناها البحث عن آثار الشيء، وإنّما سميّت القصّة قصّةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.

فاستجابت "أُخت موسى" لأمر أمّها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفهآل فرعون.. ويقول القرآن في هذا الصدد: (فبصرت به عن جنب).

ولكن أُولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه (وهم لا يشعرون).

قال البعض: إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثاً عن مرضعة له، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه، فرأت - من فاصلة بعيدة - كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أُخرى لجملة (وهم لا يشعرون) أيضاً.

فالعلامة "الطبرسي" لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن فرعون جاهل بالاُمور إلى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تُقهر!؟.

وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أُمّه عاجلا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: (وحرمنا عليه المراضع من قبل)(1).

وطبيعيٌ أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولا سيما أن ملكة مصر "امرأة فرعون" تعلق قلبها به بشدّة، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات، أو أنّه لم يكن يتذوق ألبانهن، إذ يبدو لبن كلٍّ منهن مرّاً في فمه، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أُخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاءً وضجيجاً، ومازال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل، فقالت: (هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون).

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبناً، وقلب طافح بالمحبّة، وقد فقدت وليدها، وهي مستعدةً أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة أُمّه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سروراً، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم، وامرأة فرعون هي الأُخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضاً.

ولعلهم قالوا للمرضع: أين كنت حتى الآن، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّةً.. فليتك جئت قبل الآن، فمرحباً بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات: حين استقبل موسى ثدي أُمّه، قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أُمّه الحقيقية، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك، فقالت: أيّها الملك، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب، لم يأتي طفل رضيع إلاّ قبل بي، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(2).

ونقرأ في هذا الصدد حديثاً قال الراوي: فقلت للإمام الباقر(ع) ; فكم مكث موسى غائباً من أُمّه حتى ردّه الله؟ قال "ثلاثة أيّام"(3).

وقال بعضهم: هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام.. الملوّثة بأموال السرقة، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أُمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله (فرددناه إلى أُمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (4)).

هنا ينقدح سؤال مهم وهو: هل أودع آل فرعون الطفل "موسى" عند أُمّه لترضعه وتأتي به كل حين - أو كل يوم - إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع "أم موسى" أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليلٌ قوي لأيٍّ من الإحتمالين، إلاّ أن الإحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضاً، وهو: هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة، أم أنّه حافظ على علاقته بأُمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم: أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربى موسى عندهما، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى(ع) بعد بعثته (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؟!) (5)، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسى(ع) بقي مع كمال الإحترام في قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ، إلاّ أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط، فواجه النزاع بنفسه "وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله"(6).


1- النساء، الآية 75.

2- النساء، الآية 97.

3- ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير "أبو الفتوح" و"مجمع البيان".

4- يقول الراغب في مفرداته: إن الفرق بين "الخاطىء" "والمخطىء" هو أنّ الخاطىء هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه..

أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته، إلاّ أنّه يخطيء في الاثناء صدفة، فيتلف العمل.

5- "المراضع" جمع "مُرضِع" على زنة "مُخبر" ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها، وقال البعض: (المراضع) جمع (مَرضَع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع، أي، "الأثداء" وقال البعض: يحتمل أن تكون الكلمة جمعاً للمصدر الميمي "مرضع" بمعنى الرضاع، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو..

6- تفسير الفخر الرازي، ج 24، ص 231.