الآيات 68 - 75
﴿قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ (69) وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُنْ فِى ضَيْق مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إَنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (71)قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ (72)وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَآئِبَة فِى السَّمَآءِ وَالاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين (75)﴾
التّفسير
لا يضيق صدرك بمؤامراتهم:
كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعادْ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر.
ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامتهُ الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يُرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحثبدلا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار، وأنذرتهم بعقابه المخزي... فوجهت الخطاب للنبي(ص) قائلةً: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).
فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.. فهلاّ سرتم في الأرض قليلا، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز... لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.
ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا... فأنتم كأُولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.
والقرآن دعا مراراً إلى السير في الارض، ومشاهدة آثار الماضين، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب، وقصور الظالمين المتداعية، والقبور الدارسة والعظام النخرة، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!
إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحىّ لأُولئك الماضين، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق... والواقع كذلك، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثراً لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.
(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية 137 من سورة آل عمران).
ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ "المجرمين" بدلا من "المكذبين"... وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق، بل أساسه العناد واللجاجة.
وتلوثهم بأنواع الجرائم!
وحيث أن الرّسول(ص) كان يشفق عليهم لإنكارهم، ويحزن لعنادهم، ويحترق قلبه من أجلهم، إذ كان حريصاً على هدايتهم، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً.. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له: (ولا تحزن عليهم) ولا تقلق من مؤآمراتهم (ولا تكن في ضيق ممّا يمكرون).
إلاّ أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه، أخذوا يسخرون منه (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).
ومع أنّ المخاطب هو النّبي(ص)، إلاّ أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع "إن كنتم صادقين" لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبي(ص)أيضاً... فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!
وهنا يردُّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية، فيقول مخاطباً نبيّه: (قل عسى أن يكون قد ردف لكم بعض الذي تستعجلون).
فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم... فلم هذا العناد واللجاجة؟!
"ردف" فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الاشخاص أو الاشياء التي تقف صفاً واحداً بعضها خلف بعض.
وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به، فقيل: هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.
كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين، والآية (33) من سورة الأنفال شاهدة عليه (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
والتعبير بـ "عسى" لعله على لسان النّبيّ(ص).
وحتى لو كان من قِبَلِ الله سبحانه - فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم، فإنّه ليس فيه أي إشكال... إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته، مع إمكان أن تقترن هذه المقدماتبالمانع، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة)!.
ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة: وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم، فذلك بفضله وبرحمته، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم، فيقول: (وإنّ ربّك لذو فضل على الناس ولكنّ أكثرهم لا يشكرون).
وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة، فهم في غاية الخطأ: (وإن ربّك ليعلم ما تكن صدورهم ومايعلنون)(1).
فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون، والغيب والشهادة عنده سيّان.
فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود، وإلاّ فهي في مقابل غير المحدودتفقد معانيها و تتلاشى حدودها.
وهنا ذكر "علم الله بما تكنّ القلوب" مقدماً على علمه بالأفعال الخارجية، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.
ثمّ يضيف القرآن قائلا: إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكن القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق! (وما من غائبة في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين)(2).
وواضح أن "الغائبة" لها معنى واسع، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب... وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية، وأسرار السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة، زمان نزول العذاب، وأمثال ذلك.
ولا دليل على أن نفسّر "الغائبة" هنا بواحد من هذه الأُمور المذكورة آنفاً - كما ذهب إليه بعض المفسّرين -.
والمراد بـ "الكتاب المبين" هو اللوح المحفوظ، وعلم الله الذي لا نهاية له، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الأنعام.
ملاحظات
التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق:
1 - استبعادالعودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان تراباً، لإعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساساً للحياة!
2 - قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.
3 - عدم نزول العذاب على منكري المعاد... لأنّه لو كان حقّاً أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!
وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها، وكنا في البداية تراباً ثمّ صرنا أحياءاً!
وكون الشيء قديماً لا ينقص من أهميّته أيضاً... لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد... وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأُخَر أصول كثيرة ثابتة... فَهَل كون امتناع اجتماع النقيضين قديماً، أو جدول ضرب فيثاغورس قديماً، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسناً والظلم سيئاً منذ القِدَم، ولا يزال كذلك، فهل هو دليل على بطلانه... فكثيراًما يتفق أن القِدَم دليل على الأصالة.
وأمّا في شأن الإشكال الثالث، فيجيب القرآن: ألاّ تعجلوا.. فعدم نزول العذاب من لطف الله، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.
1- "بُشر" على وزن "عشر" - كما ذكرنا آنفاً - مخفف بُشر على وزن "كتب"، وهي جمع "بشور" على وزن "قبول" ومعناه المبشر.
2- تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.